نيران بروكسل.. أين نحن مما حدث؟
في توقيت متقارب ضرب الإرهاب سيناء وإسطنبول وبروكسل. كانت الضربات موجعة بحجم ضحاياها وعمق المخاوف التي أثارتها، غير أن نسب التعاطف الدولي اختلفت من حالة إلى أخرى.
لم يكن هناك تعاطف يعتد به مع الضحايا الذين سقطوا في سيناء من بين ضباط وجنود الشرطة، ولا تنديد بالإرهاب الذي يضرب من حين إلى آخر. بكل قياس فإن استهداف كمين شرطة بجنوب العريش مجزرة إنسانية، فقد أريقت دماء (13) ضابطاً وجندياً وسلبت أسلحتهم ونشرت صور العملية كنوع من التنكيل بالروح المعنوية في الحرب مع الإرهاب.
أسوأ تفسير ممكن نسبة «عدم التعاطف» إلى «مؤامرة» مُحكمة يتبناها الغرب لإسقاط مصر في الفوضى. لا يعقل أن تتواطأ علينا- على نحو يشبه الإجماع- الحكومات الغربية وأجهزة استخباراتها ووسائل إعلامها والمنظمات الحقوقية الدولية التي تتمركز فيها.
التاريخ يعرف المؤامرات، وسجلاته مليئة بالوثائق التي تؤكد وتثبت، غير أن التفكير التآمري قضية أخرى تستسهل الإجابات المحفوظة والوصفات المعلبة.
إعفاء أنفسنا من المسؤولية يمنع النظر في المرآة لنرى الصورة على حقيقتها. عندما تطلب من العالم أن يتعاطف مع قضاياك فلا بد أن يكون خطابك متماسكاً ومقنعاً.
بعض الكلام الإعلامي يحرّض على كراهية الأجانب ويفتقد الحد الأدنى من القيم الإنسانية في احترام الحق بالحياة. وبعض الكلام الدبلوماسي يدافع عن سجل حقوق الإنسان كأنها مباراة في البحث عما لدى الغرب من انتهاكات لتبرير ما يحدث عندنا.
قضية حقوق الإنسان أساسية لكسب التعاطف الإنساني في الحرب الضارية مع الإرهاب.
مثل هذه الحروب تستدعي بطبيعتها إجراءات استثنائية، غير أن هناك فارقاً بين ما هو ضروري لمحاصرة الإرهاب وتصفية بؤره وبين ما هو متغول بغير سند قانوني على الحقوق والحريات العامة.. شيء ما جوهري لا بد أن يتغير.
الاعتراف بأن صورة حقوق الإنسان لا تدعو إلى أي تقدير، خطوة أولى والعمل على تحسين ملفه خطوة ثانية.
رغم التراجع الفادح في سجل الحريات وحقوق الإنسان في تركيا فإنها تمكنت من عرض قضيتها على العالم على نحو شبه متماسك بعد التفجير الإرهابي في شارع الاستقلال، أبرز مزاراتها السياحية. ولأسباب إنسانية قبل أي أسباب أخرى اندفعت «الميديا» في العالم بأسره لأوسع تعاطف مع عذابات الضحايا وصور الترويع على الوجوه والدماء على الأسفلت. كما تدافعت دول العالم بلا استثناء تقريباً في التنديد بالحادث الإرهابي البشع.
وقد كانت الخارجية المصرية من ضمن الذين نددوا، وهذا موقف صحيح وفق أي قيمة إنسانية أو سياسية.
الوقوع في «فخ الشماتة» خطيئة وسذاجة، أياً كانت الخلافات مع سياسات الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان». عندما تشمت في الضحايا فلا تتوقع أن يتضامن معك أحد إذا ما تعرضت للمأساة نفسها.
هناك فارق بين التضامن الإنساني في مواجهة الإرهاب وبين مسؤولية السياسات عن تفشيه..الأول مطلق.. والثاني تقديري.
بيقين فإن سياسات «أردوغان» دفعت تركيا إلى مركز الإرهاب وضرباته. بدواعي الحرب على نظام الرئيس السوري «بشار الأسد» فتحت الحدود التركية لعبور السلاح والمقاتلين الذين ينتسبون للتنظيمات المتطرفة ومن بينها «داعش» و«النصرة».
بأرقام رسمية تعود إلى نحو عامين يبلغ عدد منتسبي «داعش» ثلاثة آلاف تركي، ومن المرجح أن يكون الرقم قد ارتفع.
مشكلة «أردوغان» أن سياساته أفضت إلى حصار مزدوج بالرصاص والمتفجرات من «داعش» و«حزب العمال الكردستاني». ف«داعش» هو الذي ساعدها ومولها، وفق شهادات متواترة، وحزب «العمال الكردستاني» يتحمل جانباً كبيراً من مسؤولية إخفاق استيعابه في البنية السياسية التركية.
الصدام المفتوح مع الأكراد يتصادم مع أنهم نسبة لا يستهان بها من سكان البلاد. وفي الصدام ضربت «داعش» شارع الاستقلال، دون أن يكون أحد في البداية على يقين من أين جاءت الضربة التي أسقطت عشرات الضحايا.
رغم ذلك فإن الصور الإنسانية لضحايا إسطنبول استدعت تعاطفاً دولياً مؤثراً وملموساً، وهو ما لم يحدث في الحالة المصرية، رغم كل المعاناة والألم وأعداد الضحايا.
الأمر يختلف جذرياً في الحالة البلجيكية من حيث التعبئة العامة على جميع المستويات الأمنية والدبلوماسية والسياسية والإعلامية. فالتفجيرات التي روعت بروكسل وأسقطت عشرات القتلى والمصابين ضربت المركز الأوروبي في عمق أمنه.
الاستنفار الواسع في العواصم الأوروبية الرئيسية مثل باريس ولندن وبرلين خشية عمليات تستهدف مطاراتها ومحطات مترو يعكس مدى خطورة الأزمة على سلامة دولها، ف«داعش» قد تمركزت في قلب القارة العجوز بترسانات سلاح متقدم وخلايا نائمة قد تضرب في أي وقت.
قد يقال إن «المركزية الغربية» تضفي عناية خاصة على ضحاياها وتقلل من الضحايا الآخرين الذين ينتسبون إلى إقليم الموت اليومي فيه مجانياً.
هذا كلام له وجاهته وعليه شواهد وقرائن، غير أن ذلك لا يمنع من التضامن الإنساني الكامل مع الضحايا الذين أريقت دماؤهم في عاصمة الاتحاد الأوروبي.
وقد يقال: إن أوروبا تدفع ثمن مواقفها في الشرق الأوسط من تدمير العراق بعد احتلاله إلى غزو ليبيا وتفكيك دولتها إلى جر سوريا إلى مستنقع دموي لا مثيل لخطورته.
هذا كلام آخر لا سبيل لإغفال حقائقه، لكنه لا يبرر أي شماتة إنسانية في الذين روعوا في الطرقات العامة وسقط بينهم قتلى بلا ذنب.
القيم الإنسانية لا تتجزأ ولا يصح التفريط فيها أو التردد بشأنها. وكسب المعركة الأخلاقية مسألة حاسمة في نهاية المطاف. بعد ذلك تتبدى حقيقتان وسط «نيران بروكسل».
الأولى: ارتفاع منسوب كراهية العرب والمسلمين في المجتمعات الأوروبية. وكالعادة سوف ننسب الكراهية المتصاعدة إلى «الإسلاموفوبيا» والجماعات اليمينية المتطرفة التي تعادي الأجانب. ذلك صحيح دون شك، غير أننا ننسى مسؤوليتنا عن صورتنا التي تدهورت بأثر مثل هذه العمليات الإجرامية.
عندما نطالب مستنيري أوروبا من سياسيين وصحفيين ومفكرين بالتصدي لموجات اضطهاد المسلمين في بلدانهم والانتصار لقيم التسامح والتعايش والاندماج فإنه من الأولى بنا أن نجرم أي نزعات تحرض على كراهية الأجانب لمجرد أنهم أجانب ونزكي القيم ذاتها في بلداننا، وأن نقدم بلا تردد على تجديد الخطاب الديني.
والثانية: تسارع وتيرة التسوية المحتملة للأزمة السورية.
هناك ما يشبه الإجماع الدولي على أن وضع حد للاقتتال في سوريا بالتسوية يفسح المجال لإنهاء ظاهرة «داعش» في قلعتها ومنع تدفق لاجئين جدد إلى المدن الأوروبية هرباً من الموت المجاني.
عند مفرق طرق جديد في الحرب مع «داعش» نحن بحاجة أن نعرف مواضع أقدامنا وأن ندرك أين نحن من نيران بروكسل وما بعدها.