نون والقلم

محمد سيف الدولة يكتب: شكرا جمال عبد الناصر

في الذكرى الخمسين لوفاة جمال عبد الناصر، علينا أن نتوجه إليه بخالص الشكر والتقدير على ما حققه خلال مدة حكمه التي لا تتجاوز 18 عاما، وكذلك على الدروس الثمينة التي تعلمناها من الهزائم والعثرات وبعض الثغرات الجسيمة والخطيرة في النظام الذي قام بتأسيسه، حتى نتجنب تكرارها فى المستقبل:

فلنشكره أولا:

♦ على تحقيق الاستقلال وتحرير مصر من احتلال بريطاني دام 74 عاما، وعلى تأميم قناة السويس وتمصير البنوك والشركات والمصالح الاقتصادية الأجنبية الاستعمارية.

♦ وعلى انحيازه إلى فقراء الأمة في كل مناحي الحياة الاقتصادية والصناعية والزراعية والتعليمية والسكنية والعلاجية.

♦ وعلى تحرير ثروات البلاد ومقدراتها من سيطرة كبار ملاك الأراضي الزراعية وكبار الرأسمالين واحتكار الشركات والبنوك الأجنبية.

♦ وعلى المشروعات الكبرى التي كان على رأسها بناء السد العالي رغم كل الضغوط والعقبات الخارجية، وعلى تأسيس القطاع العام ومئات المصانع والصناعات الوطنية وتعيين ملايين العمال والموظفين.

♦ وعلى إحياء الوعى الشعبي المصري بانتمائنا الوطني والقومي وهويتنا العربية، وبعودة مصر إلى دورها التاريخي منذ عصر الحروب الصليبية وما قبلها، إلى مكانتها في القلب من الأمة وعلى رأس قيادتها في مواجهة الغزوات والمخاطر الخارجية.

♦ ونشكره ألف شكر على تعميق العداء إلى الكيان الصهيوني وعدم الاعتراف بشرعية (إسرائيل) ولا الصلح أو التفاوض معها حتى في أحلك ظروف الهزيمة.

♦ وعلى عدم استسلامه بعد هزيمة 1967، وعلى شروعه الفوري في إعادة بناء القوات المسلحة والاشتباك مع العدو في حرب الاستنزاف، مما كان له دورا كبيرا فى الإعداد لحرب 1973.

♦ وعلى دوره في دعم فلسطين وقضيتها وتبنيه لحركات المقاومة ومساندته لتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية.

♦ وعلى عدم الاكتفاء بتحرير مصر من الاحتلال البريطاني بل الاشتباك بكل قوة مع أي احتلال أجنبي آخر لأي قطر عربي وتقديم الدعم لثورات التحرر وحركات المقاومة بالمال والسلاح والمساندة السياسية والدولية.

♦ وعلى احتفاظه بإرادة مصر مستقلة عن الدول الكبرى شرقا وغربا، وقيامه بدور قيادي مع زعماء مثل نهرو وتيتو فى بناء وتأسيس منظمات دولية ترفض الانحياز والتبعية لأي من القوتين العظمتين.

♦ وعلى فضله الكبير فى وجود أجيال متعاقبة من أنصاره وتلاميذه من الشباب المصري والعربي المتمسك بعروبته المناهض للولايات المتحدة ولإسرائيل والمناضل من أجل وحدة الأمة ولو بعد حين.

….. وهكذا

***

♦ ولكننا من ناحية أخرى ندين للتجربة بالعرفان، لما تعلمناه من دروس ثمينة من اخطائها الجسيمة وهزائمها القاسية ومأساة الارتداد والانقلاب عليها وعلى كل ما دعت إليه ونادت به:

♦ فلقد تعلمنا من هزيمة 1967 القاسية والتي لا نزال نسدد فواتيرها حتى اليوم، إن الجيوش لا يجب أن تتورط فى الصراعات السياسية ولا يجب أن تتحول إلى مراكز قوى فوق الشعوب ولا أن تكون بمنأي عن المراقبة والمسائلة والحساب من المؤسسات البرلمانية والقضائية والإعلامية والسياسية والشعبية.

♦  وتعلمنا كثيرا من ردة نائبه ورئيس الدولة من بعده، محمد أنور السادات؛ هذه الردة  التي اسقطت مصر فى التبعية للولايات المتحدة بعد حرب 1973، وعقدت اتفاقيات كامب ديفيد مع العدو الصهيونى واضعفت مصر والأمة العربية وسلمت الاقتصاد المصري للسوق العالمي ولمؤسسات الإقراض الدولي وللشركات متعددة الجنسية، وسلمت ثروات البلاد إلى حفنة من الرأسماليين ورجال الأعمال..الخ، تعلمنا منها أخطر درس، وهو أن النظام الذي أسسه عبد الناصر كان مخترقا من داخله حتى النخاع، وأنه لم يكن قادرا على حماية نفسه ومنجزاته وانحيازاته وخطه الوطني ومكاسب ومصالح شعبه بعد رحيل عبد الناصر، فلقد كان قائما على وجود رجل واحد، وبمجرد رحيله سقط كل شئ بسهولة متناهية وبدون مقاومة تذكر خلال سنوات قليلة. تعلمنا أن الرهان يجب أن يقوم على الشعوب وقواها الوطنية قبل أن يقوم على الزعماء والقادة.

♦ وتعلمناه درسا هاما من تجربته الاقتصادية وهو أن العدالة الاجتماعية أو الإشتراكية لا يمكن أن تبنى كما حدث بدون إشتراكيين وكوادر من الناس منحازة إلى مصالحها، ولا يمكن أن تبنى وتستمر تحت قيادة رجال الأعمال وكبار الرأسماليين لأنهم في أول فرصة سيقومون بالانقضاض والارتداد عليها ليعيدوا نهب واسترداد ما تم مصادرته من أموالهم وثرواتهم وشركاتهم وسيقومون باختراق القطاع العام وافساده وشراء كبار قياداته وخصخصته وشراءه بأبخس الأثمان وتصفية الصناعات الوطنية لحساب المنتجات الأجنبية التي اخذوا توكيلاتها، وسيقودون خطة إغراق مصر فى التبعية الاقتصادية واخضاعها لرؤوس الأموال الأجنبية وضرب الاقتصاد الوطني.

♦ وتعلمنا من واقع النظام السياسي الذي أسسه عبد الناصر، الخطأ الجسيم فى تأميم الحياة السياسية وإدارة البلاد بتنظيم أو حزب وحيد من صناعة السلطة وتابع وموالى لها، لأنه في هذه الحالة سيكون مرتعا لأسوأ العناصر الانتهازية في البلاد، رجال كل العصور وكل الأنظمة وكل الحكام، ليس لهم مبدأ أو عقيدة، يبيعون الوطن والشعب بحفنة جنيهات.

♦ وتعلمنا كثيرا من مأساة تزوير الانتخابات والاستفتاءات ونسب الـ 99% حتى لو كان نجاح عبد الناصر مضمونا في أى انتخابات رئاسية، ولا نزال ندفع أثمانا فادحة لها حتى يومنا هذا.

♦ وتعلمنا خطأ حل الأحزاب، وعلى الأخص الوطنية منها، وحصار عناصر المعارضة واعتقالهم والزج بهم فى السجون والمعتقلات، وخطأ مواجهة الأفكار والمفكرين والتيارات الفكرية، بالأجهزة الأمنية التي تضخمت وامتد نفوذها إلى كل مؤسسات الدولة، وأصبحت هي التي تدير وتخطط وتنظم الحياة السياسية والبرلمانية فى مصر، وتحدد من الذي يشارك فيها ومن الممنوع من شرعيتها.

♦ وتعلمنا خطأ الرأي الواحد وإعلام الدولة وتأميم الصحف والصحافة والصحفيين وكل منابر الإعلام، وكيف أدت إلى تمرير أبشع الجرائم الوطنية في حق البلاد والعباد، بدون أي قدرة على النقد أو الرد أو المحاسبة أو التعقيب أو التنبيه.

♦ وحتى في تجربة الوحدة مع سوريا التي كانت «أمل الأمة» ولم تستمر سوى ثلاث سنوات 1958 -1961، فلقد تعلمنا منها أن الوحدة لا يمكن أن تأتي من أعلى، ولا يمكن أن تكون وحدة بدون وحدويين وقوميين حقيقيين، ولا يمكن أن يكتب لها النجاح لو كان القائمين عليها هم أجهزة الأمن والمخابرات في كل دولة، لأن ولائهم لدولهم قبل أن يكون للوحدة. بينما الوحدة بين دولتين أو أكثر لا تعني في النهاية سوى إلغاء كل منهما لصالح الدولة الجديدة الوليدة.

♦ وخلاصة السطور السابقة في كلمات قليلة إننا قد تعلمنا من ثورة يوليو 1952 – 1973، أن الثورات لا يمكن أن تقوم بالتنظيمات السلطوية الفوقية وبالموظفين والأتباع والأجهزة الأمنية والعناصر المنافقة والانتهازية ورجال الأعمال، بل لابد أن تقوم وتأتي وتحكم بكوادرها في حماية الملايين من جماهير شعبها، وفقا لرؤية منهجية علمية وبرنامج عمل وطني وتحالف عريض وواسع من التيارات والقوى الوطنية المناهضة للاستعمار والصهيونية المنحازة للشعوب الساعية إلى سد احتياجاتها المعيشية المؤمنة بالمشاركة والحرية والديمقراطية.

***

فى نهاية هذه السطور أعود وأقول إنه رغم كل شئ إلا أن تقديرنا لجمال عبد الناصر يعلو ويزداد كلما قمنا بالمقارنة بين خطه الوطني القومي التحرري المنحاز إلى الفقراء، وبين ما آلت إليه الأحوال في مصر وباقى أقطار الأمة في السنوات الأخيرة، من تبعية وتطبيع وافقار واستبداد.

Seif_eldawla@hotmail.com

 

t –  F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية

زر الذهاب إلى الأعلى