نون والقلم

ليتهم دُمى

الديمقراطية ليست مقادير وجبة طعام يتم مزج مكوناتها وطهيها وتقديمها على طبق من ذهب، وليست زياً نرتديه بسهولة فنصبح ديمقراطيين. الديمقراطية قيم ومبادئ وأخلاق تُغرس منذ الطفولة ويتم تدريسها في المدارس، حتى تتحول إلى سلوك يومي يمارسه الناس. ولهذا، هي تراكم يتحقق عبر الأجيال، ولا يمكن تحقيقه ضمن جيل واحد، أو ضمن عقد من الزمان.
ولأن الديمقراطية ثقافة في المقام الأول والأخير، وقناعة راسخة في احترام الرأي والرأي الآخر، ولأنها مبنية على احترام نتائج صناديق الاقتراع، فقد فشلت في الوطن العربي، كما فشلت الأفكار التي استوردتها الشعوب واعتنقتها التنظيمات على مر نصف قرن من الزمان، مثل الاشتراكية والشيوعية والرأسمالية. فشلت لأن الأرض غير مهيأة لاحتضان النبتة، ولأن هناك خصوصية لكل مكان عربي، وربما هناك خصوصية لكل مدينة وقرية.. والتخلص من هذه الخصوصية وصهرها في نظام عام يتطلب سنوات من العمل الجاد الحقيقي.
الدول الغربية تؤمن بهذا الطرح الخاص بالديمقراطية، ولهذا تقوم بتدريس مادة الديمقراطية في مناهجها، وتدرب الطلاب في المدارس، والأبناء في البيوت على قيم الديمقراطية، وعلى رأسها قبول الآخر واحترام ثقافته، وتطبيق القانون بشكل عادل، والقبول بصندوق الاقتراع.
ولكنه، أي الغرب، حين جاء ليصدر للعالم العربي الديمقراطية، جاء على ظهر دبابة تحتل الأرض وتخلع رأس النظام مرةً، ومرة أخرى جاء عن طريق زرع الفوضى، وثالثة لجأ إلى شحن المجتمعات بالطائفية والمذهبية، ليطبق فكرته في بناء دول أو دويلات تأخذ في الحسبان المذهب والعرق واللغة. في الوقت الذي لا يتم تسجيل الديانة ولا المذهب في أي بطاقة رسمية في أي من البلدان الأوروبية والغربية، لأنها تُعد ضمن أشكال التمييز، بل إن بعض المنظمات تنتقد تسجيل النوع (ذكر أو أنثى)، على البطاقة، وتعتبره شكلاً من أشكال التمييز بين الأنواع. فلماذا حين أرادت تصدير الديمقراطية للعالم العربي، نبشت المجتمعات، فغذت القبيلة والمذهب والديانة، وشكلت مجموعات بناء على هذا التصنيف لمحاربة الأنظمة للوصول إلى الديمقراطية، وكانت النتيجة أنها شجعت التطرف والتمييز بين المذاهب والطوائف، وبدأ مسلسل القتل والذبح والتكفير.
إن من يرقب ويتابع الخطاب السياسي الغربي فيما يتعلق بالعالم العربي، يكتشف أنه يخلو من كلمة الديمقراطية. فالدول التي حرقها ما يسمى (الربيع العربي) منشغلة بمحاربة التطرف و(الإرهاب) وعصابات الاتجار بالآثار والبشر والسلاح، والدول التي لم يمسها ذاك (الربيع) منشغلة في حماية حدودها من التطرف و(الإرهاب)، والعالم المتحضر رائد الديمقراطية منشغل أيضا بكل ذلك. ونتج عنه قلقاً بشرياً وملايين اللاجئين، فتمزقت المجتمعات والجغرافيا، ولم يعد بالإمكان إعادة رسم المنطقة إلا بحضور عسكري أجنبي، وهذا ما يحصل الآن، طائرات وجنود وأسلحة ومستشارون قادمون من روسيا إلى سوريا أسسوا أكثر من قاعدة عسكرية هناك، وطائرات وجنود وغيرهم من الولايات المتحدة إلى العراق للمشاركة في تحرير الموصل العراقية والرقة السورية. قوة تحارب من أجل الحفاظ على النظام السوري، وقوة تحارب من أجل الحفاظ على النظام العراقي، وكلاهما قد عفا عليه الزمن، فالنظام السوري لم يتغير منذ أكثر من أربعين سنة، والنظام العراقي الحالي هو امتداد للنظام العراقي السابق من حيث الفساد والطائفية والمذهبية، إلى درجة أن قوات الجيش العراقي أو الحشد الشعبي الذين يقومون بمقاتلة «داعش»، فإنهم حين يدخلون مدينة بعد تحريرها يقومون بحرق البيوت لأنها لفئة مذهبية أخرى أو لاعتقادهم أنهم كانوا متواطئين مع «داعش»، فعن أي ديمقراطية يتحدث الغرب وهو يقف إلى جانب أتباع مذهب معين في مكان، ويقاتلهم في مكان آخر.
إن جل طموح حلف الناتو حالياً طرد «داعش» من الموصل العراقية والرقة السورية، بينما يقوم «داعش» بحرق آبار النفط في ليبيا، وما أدراك ما يعني حرق خمسة ملايين برميل دفعة واحدة، يملأ دخانها السماء الليبية، وقد ينتقل إلى مصر أو دول المغرب العربي، لينشر الأمراض المزمنة. ما يدل على أن الغرب يبحث حالياً عن مخرج وليس لنشر الديمقراطية، فالنظام الذي خلف نظام صدام حسين لا يعرف الديمقراطية لأنه بُني على الطائفية، ومن يراقب الواقع العراقي يعرف معنى ما نقول.
التجربة التونسية كانت محل إشادة من جميع السياسيين والمثقفين والإعلاميين العرب والأجانب، بوصفها كانت أنجح التجارب، وحققت الانتقال السلمي السياسي من دون إراقة دماء، لكن الذي حصل هو أن النظام السابق، نظام ابن علي، لم يرحل، وحل محله رجال من قلب النظام، مع فارق بسيط هو السماح بتعدد الأحزاب، ولكن من جهة أخرى برز التطرف في أبشع صوره، وأصبحت تونس المصدر الأول للمقاتلين الذاهبين (للجهاد) في سوريا.
تونس الآن تشهد تظاهرات وحراكاً شبابياً جديداً احتجاجاً على سوء الإدارة ، التي لم تستطع توفير فرص العمل للخريجين الذين يعدون بعشرات الآلاف، فضلاً عن عدم السيطرة الأمنية على كثير من الأماكن بفعل سيطرة المتطرفين عليها. واللافت في الأمر أن الحكومة توجه التهمة للمتطرفين، على أنهم وراء هذه الاحتجاجات، مع اعترافها بوجود بطالة كبيرة في أوساط الشباب.
بعض المراقبين يتنبأ بجولة جديدة تشبه تلك التي خلعت نظام ابن علي، أي العودة إلى نقطة الصفر في الممارسة الديمقراطية، فخمس سنوات لم تكن كافية لإنجاح التجربة الديمقراطية، لأن الديمقراطية لا تحدث بين عشية وضحاها، وليست وصفة طبية لمعالجة التهاب في الحلق.
ما يحدث في تونس سيحدث في سوريا وليبيا واليمن بعد التوصل إلى تشكيل حكومات يُفترض أنها تمثل أطياف المجتمع ومكوناته، فمن يعتقد أن المباحثات بين النظام السوري والمعارضة ستؤدي إلى نتائج حاسمة يكون كمن يعيش في دائرة وهم، فحتى لو تنحى بشار الأسد، ستتحول سوريا إلى ما يشبه الصومال، أو كما يحدث في ليبيا.
هذا ليس من باب التشاؤم، ولكن من باب التفكير المنطقي، فالتجربة الديمقراطية تم تطبيقها بشكل خاطئ، وأسلوب الانتقال من الأنظمة الديكتاتورية إلى أنظمة متنوعة، تم بطريقة بربرية وعلى طريقة العصابات، وهذا الانتقال سيجلب جماعات تصادر الآخرين، لأن الرصاص كان لغة الحوار، ولهذا، ستستمر مصادرة الآخر بقوة السلاح.
قد يسأل أحدنا: ما هو الحل؟
الحل ليس سحرياً، ومن الصعب تخيله، ولكن يمكننا القول إن الأسلوب المتبع لتحقيق الحلول أسلوب خاطئ، لأنه لا يأخذ في الحسبان اللاعبين الرئيسيين على الأرض، إلا إذا كان اللاعبون مجرد دمى، يتم حرقهم متى ما أراد المحرك.. وليتهم كذلك.

زر الذهاب إلى الأعلى