نون والقلم

لمــاذا يغـالط التونسيـــون أنفسهـــــم؟

من حيث المبدأ، لا شك في أن المحاسبة القانونية الشفافة الخالية من الانتقام والمزايدات والتضخيم، هي شرط كل مصالحة حقيقية. ويمكننا أن نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ونقول إن كل مصالحة تفتقر إلى شرط المحاسبة وتتحايل عليه هي مصالحة مغشوشة ويمكن أن تنقلب إلى نقيضها في أول احتقان مهما كان نوعه.
غير أن تنزيل المبادئ والحقائق المذكورة في أرض الواقع، يُطبعها بخصائص اللحظة الواقعية وأيضا بصفات المجتمع المعني بالأمر نفسه.
ثم إن اختيار المضي في نهج معين، لا ينفع معه التراجع في منتهى الطريق.
لا معنى لقبول المصالحة في مجال ما، ورفض مبدإ المصالحة في مجال آخر والحال أن المصالحة جوهر غير قابل للتجزئة والبتر.
ففي هذا السياق، أرى أن الرفض الذي قُوبلت به مبادرة المصالحة الاقتصادية والمالية هو من نوع الرفض المسقط وغير المفهوم والخارج عن السياق، الذي تم اختياره.
فكيف يمكن لنا بعد أن أسقطنا مشروع قانون العزل السياسي الذي عرف بدوره جدلا ساخنا وحادا أن نرفض المصالحة الاقتصادية؟
أغلب الظن أن المصالحة السياسية هي الأصعب ولقد تم تجاوزها بسلام، وصادق المجلس الوطني التأسيسي آنذاك ضد الإقصاء السياسي.
وفي الحقيقة، فإن ذلك القانون كان أصعب امتحان عاشه الشعب والنخب بعد الثورة. ويُخطئ من يعتقد أنه تصويت ضد العزل السياسي فقط. بل إنه تصويت رمزي قوي الرسالة ويعتبر عنوانا كبيرا للمصالحة الوطنية وإن كان البعض مرغما على قبولها.
وحتى بالمعنى السياسي، فإن الانخراط في طريق المصالحة السياسية كان يجب أن يعني بالنسبة إلى المعارضين والرافضين أن الموضوع قد أغلق وأن الدور الحقيقي للمعارضة والحقوقيين اليوم اليقظة المستمرة ضد كل ما يهدد مكتسبات تونس الجديدة.
لذلك، فإن التصريحات الرافضة للمصالحة الاقتصادية والمالية والأخرى المهددة بالاحتجاج الجماهيري وغيرها، تبدو شاذة في سياق بلد رفض العزل السياسي وفاز فيه حزب «نداء تونس» في الانتخابات، وهو الحزب الذي يضم وجوها كثيرة في السياسة والاقتصاد وكانوا فاعلين زمن ما قبل الثورة.
لقد اختار التونسيون عدم القطيعة والإقصاء وأوكل أمر المحاسبة للقضاء والمحاكمة.
كما أنه حتى لو تمت المصادقة على العزل السياسي بالقبول، فإن أمر المصالحة الاقتصادية والمالية يختلف جدا.
فهي مصالحة لا بدّ منها ولا مفر منها والتعامل البراغماتي الواقعي، يشير إلى أن بلادنا تحتاج إلى الرجال ونساء الأعمال يعملون وينهضون بالاقتصاد ويخففون من حدة البطالة ولن نستفيد شيئا إذا دخل رجال الأعمال السجون أو إذا فروا من البلاد والعباد.
إنه عفو عند الحاجة وليس عند المقدرة.
وتونس التي تعاني اقتصاديا اليوم هي المحتاجة إلى هذا العفو الاقتصادي.وإذا ما تأملنا النظر في المؤشرات الاقتصادية التونسية المعلنة من البنك المركزي سنجد أنه لا مفر من هذه المصالحة.
ويحتم منطق المصلحة الوطنية التفكير رئاسة ومجلس نواب ومعارضة ومجتمع مدني، في إغناء بنود القانون بشكل يجعل اقتصاد تونس المستفيد الأكبر. ويمكن للمعارضة أن تسهم في ذلك بالضغط في اتجاه التدقيق في شروط الصلح وفي تحديد مستلزماته.
هكذا يتم ابتكار شكل نافع للمحاسبة في بلد ديناره وميزانه التجاري ومقدرة مواطنيه الشرائية في تدهور متواتر.
إنه لا فائدة تذكر من مغالطة النفس. وإذا كنا تجاوزنا الإقصاء السياسي، فالأجدى أن لا نهدر الوقت والطاقة في خلاف سيحسم أمره مجلس النواب بالتصويت لفائدته.

 

نقلا عن جريدة الشروق التونسية

زر الذهاب إلى الأعلى