زمن ترامب
إذا بقي في منصبه طوال السنوات الأربع القادمة، فضلا عن أن يتواصل الجنون، ويأتي لولاية ثانية كما حصل مع بوش (الابن)، فلن يكون من الصعب علينا أن نسمّي هذه السنوات، بسنوات ترامب ، أو زمن ترامب، ليس لأنه زعيم أكبر دولة في العالم وحسب، بل لأنه له شخصية من نوع خاص، تجمع بين القوة والرعونة، فضلا عن حقيقة أنه رجل لم يتبوأ أي منصب سياسي من قبل يؤهله للاطلال على تعقيدات السياسة بشقيها الداخلي والخارجي.
صحيح أن هناك مؤسسات ودولة عميقة لن تترك له حرية العبث، لكن المؤكد أيضا أن النظام في الولايات المتحدة يمنحه قدرا من الصلاحيات بحيث يكون مؤثرا. أما الأهم فهو أن الدولة ذاتها لا تبدو في حالة من الاسترخاء بحيث تحدد أولوياتها على نحو حاسم، وبما لا يمنح ترامب فرصة التلاعب بها.
يأتي ترامب إلى السلطة بينما بلاده في حالة من الارتباك، وبالطبع بعد أكثر من عقد ونصف على حروبها العبثية التي ورّطها فيها بوش في العراق وأفغانستان، وعموم حربها ضد ما تسميه الإرهاب، وهي حالة من الارتباك لم يتمكن أوباما من تخليصها منها، وإن خفف من حدة التدهور.
خلال هذه السنوات الطويلة، كان هناك آخرون يبنون قوتهم ويصعدون (الصين أولا، روسيا، الهند، البرازيل، وحتى أوروبا رغم ارتباكها الأخير)، الأمر الذي جعل العالم يدخل عمليا مرحلة من التعددية القطبية، ناسخة ما قبلها من تفرد أمريكي أيام كلينتون، وبداية مرحلة بوش.
اليوم يأتي ترامب إلى السلطة كي يعيد أمريكا «عظيمة»، كما قال؛ تماما كما جاء بوش (الابن) بوعد «قرن إمبراطوري أمريكي جديد»، لكن مع فارق أن بوش كان قد ورث في حينه إمبراطورية في ذروة القوة، فيما يرث ترامب قوة أضعف، يتحداها كبار.
ليست هذه السطور رصدا لمستقبل الولايات المتحدة، وإن كنا متأكدين أنه سيسلمها في وضع أسوأ مما هي عليه الآن، لكنها محاولة لرصد الفوضى التي سيفرضها على العالم، والتي تبدأ من فتح صراع مع عملاق كبير هو الصين؛ تلك الإمبراطورية التي استغلت انشغال أمريكا بحروب عبثية، فبنت قوة اقتصادية وعسكرية مهولة لن تسمح لأحد بأن يعيدها إلى الوراء. وحين يتحدث مسؤول صيني، ولأول مرة عن إمكانية أن تقود الصين العالم، فهذا يعني أنها ستقبل التحدي ولن تتراجع، وإن فضّلت بقاء الوضع على حاله حتى تتمكن أكثر فأكثر.
روسيا ستواصل الصعود، ما لم تتمكن أمريكا من توريطها أكثر فأكثر في مستنقع سوريا، وهو احتمال يصعب تجاهله. وفي الحالة الأوروبية نجد ترامب يدعم انفصال بريطانيا، ويتحدث بسلبية عن «الناتو»، والاتفاقات الدولية. أما الأسوأ فهو ما يتعلق بمنطقتنا (قضية مسلمي أمريكا قصة أخرى) التي ستدخل مزيدا من العنف والفوضى تبعا لحقيقة أن ترامب سيدير سياسته فيها على إيقاع المطالب الصهيونية التي ستزداد جشعا كما اتضح منذ الأيام الأولى، فضلا عن حقيقة منطق الابتزاز الذي سيسير عليه، وهنا يحضر «جاستا»، وعموم منطق الحماية المدفوعة الذي استخدمه خلال حملته الانتخابية في حديثه عن السعودية والخليج، ثم أضاف إليه العراق مؤخرا.
رغم ذلك كله، فإن المشهد لا يبدو قاتما، فمن أتون هذه الفوضى قد يبزغ ضوء أمل، ذلك أن صراع الكبار غالبا ما يفيد المستضعفين، وفيما خصّ فلسطين قد يصحح البوصلة بعد تيه طويل، ومع إيران قد يعيدها إلى رشدها كي تتصالح مع المحيط العربي، وتكف عن مطاردة الأوهام، ما يجدد أمل الشعوب بالتغيير، ولو بعد حين، مع تصحيح البوصلة نحو فلسطين أيضا.