
رضا هلال يكتب: «موووت مبسوووط».. أو«مُت فارغًا»
لي صديق عزيز جدًا وغالٍ على قلبي، صدر له كتيب شعري بعنوان «موت مبسوط»، وهذا – في الحقيقة – دَيدنه في الحياة. فعلى الرغم من أن المشاكل قد تكالبت عليه من كل حدب وصوب، ونهش فيه ومنه القريب قبل البعيد، والأهل قبل الأغراب، إلا أنني أجده دومًا مبتسمًا، ضحوكًا، كريمًا، مجاملًا لأقصى درجة.
إنه عصام بطاح، صاحب مجموعة من الكتيبات التي تعبّر عن نبض المجتمع، ومنها هذا الكتيب اللافت بعنوانه وإشاراته. وفي لقاءاتنا الكثيرة، حين يأتي ذكر «موت مبسوط»، تلمع السعادة في عينيه، ويشرق وجهه كأنما انتصر في معركة قاسية مع الحياة. يردد على مسامعي بعضًا من “قصائده”، كما يسميها، وكأنه يستدعي بها ضوءًا خافتًا في عتمة الأيام، يواسي نفسه ويعزف على وتر صداقتنا القديمة.
عصام بطاح ليس مجرد شاعر. بل هو تجربة تمشي على قدمين. رجل قرر أن يحمل أوجاعه في جيبه، ويعلّق ابتسامته على جبينه، يوزّعها على الجميع، حتى على من خذلوه. في شعره صدق لا يتكلف، وعفوية لا تتصنع، كأنما كلماته كُتبت على عجلٍ بين تنهيدة وابتسامة.
و«موووووت مبسوووووط» ليس مجرّد عنوان، بل موقف من الحياة، فلسفة في التحمّل، وشهادة حيّة على أن النقاء يمكن أن ينجو، ولو كان مبللًا بالخذلان.
في إحدى قصائده، يقول بصوته الخافت الذي يعلو على ضجيج الدنيا: ..
لو حسيت انك هتموت
اضحك فورا
موت فرحان
ليه تقابل ربنا زعلان
عشت حياتك في الاحزان
يبقى العدل تموت مبسوط
موووووت مبسوووووط
ايه يعني عمرك وانتهى
فين ايمانك بالقدر
انت حياتك عشتها
رحله عذاب ويا البشر
يبقى كفايه خلاص احزان
ليه تقابل ربنا زعلان
لازم تفرح عند الموت
موووووت مبسوووووط
اوعى تخاف وقت حسابك
ربنا عادل ايوه اطمن
شايفك قلقان ربنا عارف انك انسان
جزء ملاك على جزء شيطان
ما بتعملش حساب للموت
بس المولى اسمه الرحمن
خليك دائما فيها عشمان
فرصة وجات لك
موووووت مبسوووووط
وهي جزء من قصيدة وردت في ديوانه «مووووت مبسوووط»، الذي صدر عن دار ناس للنشر والطباعة وشارك في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ48 عام 2017.
ويضم الديوان 21 قصيدة من الأشعار العامية، تتناول مفاهيم وقضايا إنسانية من خلال رؤية خاصة وطرح مختلف. من بين القصائد الواردة في الديوان: “ناس قانون قديم”، و”نقطة من أول البحر”، و”اتلموووا”، و”الفقيد المحترم”، وغيرها.
تتميز قصائد عصام بطاح بتناولها لموضوعات مثل الحنين إلى الماضي، وألم الفراق، والغربة، واختلاف الإحساس بها عبر الزمان والمكان. وقد صدر له أيضًا ديوان “شبه العروسة الجلد” عام 2019، الذي يضم مجموعة من القصائد العامية المتنوعة.
وفي المقابل وبينما كنت أقلب في إحدى الصفحات الثقافية، شدّني عنوان آخر يشبه ما كتبه «بطاحي»، لكنه بعنوان مقارب: «مُت فارغًا». وهو كتاب للمؤلف تود هنري، يقول فيه:
«لا تذهب إلى قبرك وأنت تحمل في داخلك أفضل ما لديك.. اختر دائمًا أن تموت فارغًا.»
أي أن تفرغ خيرك قبل أن ترحل: فكرة جميلة نفّذها، علم نافع بلّغه، هدف عميق حقّقه.
أجمل ما قاله تود هنري:
«لا تذهب إلى قبرك وفي خزانتك أكثر النقود.. مُت فارغًا.»
«مُت فارغًا» – تعبير بليغ فريد، للوهلة الأولى يبدو عاديًا، لكنه يحمل في عمقه دعوة نبيلة:
أن تموت خفيفًا من هموم الدنيا وآلامها،
أن لا تكتم الخير بداخلك،
أن لا ترحل وأنت متخوم بالعطاء المؤجل، فتكون لقمة سائغةً لدود الأرض!
وقد وجدت في تراثنا الإسلامي ما يُشبه هذا المعنى، ولكن بضابط إيماني دقيق. فلنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة. فقد دمعت عيون بعض الصحابة عندما قرأ عليهم النبي قوله تعالى:
«اليومَ أكملتُ لكم دينكم»، فعرفوا أن النبي قد أدّى الأمانة كاملة.. وأصبح مستعدًا للرحيل.
فهل نحن فارغون؟
أعتقد أن كثيرًا منا يزن أطنانًا من الخير، والثروة، والعطاء، والإبداع، والحب، والأمل.. ولم يعطِ منها إلا القليل.
ربما نحن من البخلاء في الحقيقة!
عندها فقط فهمت معنى قوله صلى الله عليه وسلم:
«إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها.»
رسول الله يقول لنا: حتى في لحظة النهاية.. ازرع!
لأنه يريد لنا أن نموت فارغين.
أن نعيش كل يوم وكأنه اليوم الأخير،
أن نعطي كل ما نملك،
أن نترك الأرض بعد أن نودع فيها بذورًا ستثمر بعدنا.
كم أتمنى أن نبدأ السباق من جديد،
لنستخرج كل ذرة خير بداخلنا!
حينها فقط.. سنكون خلفاء الله في الأرض بالمعنى الحقيقي.
إنما هي هواجس جاءتني في يوم جمعة..
أردت أن أشكركم أن تكونوا معي فيها.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا