
رضا هلال يكتب: ماهية حرية الرأي والتعبير؟!
في زحام الصخب الذي تتيه فيه المعاني، ونكدّ فيه بحثًا عن الحقيقة، لم تعد «حرية التعبير» مجرد قيمة دستورية أو شعار يُرفع في المحافل العامة، بل تحوّلت – للأسف – إلى ساحة صراع بين طرفين: أحدهما يرفعها مطلقة بلا قيد، والآخر يراها ترفًا محفوفًا بالضوابط حتى حدود المصادرة.
والحقيقة، أن حرية الرأي والتعبير، كغيرها من الحريات، لا تستقيم إلا بمسؤولية، ولا تُفهم إلا في إطارها الأخلاقي والإنساني والقانوني.
لقد صُدمت مؤخرًا من إصرار أحد الإعلاميين على مواصلة التقاضي رغم تنازل المجني عليه احتراما لنداء نقيب الصحفيين، وللعلم فإن دعوى السب والقذف المقامة كانت ردًا على تطاول فج، مسّ قامة فكرية وثقافية نادراً ما يجود بها الزمان.
ولكن الإصرار على الاستمرار في معركة قانونية، رغم تنازل الطرف المعتدى عليه، لا يُظهر تمسكًا بالحق، بقدر ما يكشف عن خلل خطير في فهم معنى حرية التعبير.
إننا بحاجة، أكثر من أي وقت مضى، لإعادة تعريف ما نسميه «حرية رأي». هل هي الحق في توجيه الشتائم والسباب؟ هل هي منصة مفتوحة للهجوم الشخصي والتجريح باسم النقد؟ هل أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي ساحة لكل انفلات لغوي وأخلاقي بدعوى «أنا أعبّر عن رأيي»؟!
في المفهوم المدني والدستوري، حرية التعبير هي القدرة على إعلان الرأي، نقدًا أو تأييدًا، شرط ألا تنتهك حريات الآخرين أو كرامتهم أو سمعتهم. الاحترام ليس نقيض الحرية، بل هو أساسها. حينما نُهين شخصًا، أو نشتمه، أو ننال من حياته الخاصة، لسنا نعبر عن رأينا، بل نرتكب جريمة أخلاقية – وقانونية – مكتملة الأركان.
ولأننا ضد الحبس في قضايا الرأي، فنحن أيضًا مع العقاب في قضايا السب والقذف، حماية للنسيج المجتمعي، وصونًا للكرامة الإنسانية. لا يعقل أن نُسقط القانون بحجة الدفاع عن حرية لا تحترم الآخرين. هناك فارق جوهري بين النقد الذي يُثري الحوار، والتجريح الذي يُفسد الود ويقطع الجسور.
لقد آن الأوان لنقابة الصحفيين، وغيرها من الهيئات الإعلامية والثقافية، أن تبادر بعقد مؤتمر وطني أو ملتقى حواري لوضع ميثاق ملزم يوضح الضوابط المهنية والأخلاقية لما يجوز وما لا يجوز تحت مظلة حرية الرأي.
نحتاج إلى إرشاد لا إلى تأديب، إلى توعية لا إلى قمع، ولكن الأهم أن نُعيد للمهنة احترامها، وللرأي وزنه، وللكلمة قدسيتها.
إن حرية التعبير التي لا تُحسن التمييز بين الرأي والإهانة، بين النقد والتحريض، بين السؤال والتشهير، ليست حرية بل فوضى. والحق في التعبير لا يعفينا من مسؤولية الكلمة، ولا يبيح لنا اختراق آداب الحوار.
أنا لا أعرف المتقاضيين شخصياً، ولكني أنتمي لمنظومة تحترم الكلمة، وتؤمن أن الكرامة تسبق الحرية، وأن الأدب مقدم على الرأي، وأن احترام الآخر هو أول بند في دستور الإنسانية.
لنجعل من حرية الرأي قاطرة تنوير، لا معول هدم.
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا