
وضع الله سبحانه تعالي دستور للبشرية جميعا أن التزمت به نجت ونجا الناس اجمعين، ولكنهم انحرفوا وخالفوا فأصبح حالهم كما نراه اليوم، وكان من باب أولى بتطبيق هذا الدستور بين المسلمين الموحدين، ولكنهم أيضا اتبعوا اهواءهم، وخالفوا قرآنهم وأوامر ربهم.
أراد الله للبشرية أن تعيش في سلام واطمئنان، ولكن البشر أرادوا لنفسهم غير ذلك، وما كان رسل الله الا لتحقيق وتطبيق هذا الدستور، من لدن آدم حتى خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبد الله صل الله عليه وسلم.
ولخص الله أحد أهم بنود هذا الدستور في كلمات بسيطة بليغة دقيقة واضحة مباشرة، وهي قوله تعالى (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)، الأعراف (199) قال المفسرون والعلماء عنها لَيْسَ في القُرْآنِ آيَةٌ أجْمَعَ لِمَكارِمِ الأخْلاقِ. منها، وهذا ما يتوافق مع الشهر الفضيل وفريضة الصيام التي تسمو بالروح والنفس إلى أعلى المراتب، ف(خُذِ الْعَفْوَ) وهو الركن الأول في هذا الدستور، أي: اقبَلْ ما تيسَّرَ مِن أخلاقِ النَّاسِ، وما سَمَحت به أنفُسُهم، ولا تُغلِظْ عليهم، فإنْ وَجدْتَ منهم خُلُقًا طَيِّبًا فاقبَلْه، وما جاءَك مِن غَيرِ ذلك فاصفَحْ عنه وتجاوَزْه، واترُكْ ما لك من الحَقِّ عليهم. [تفسير السعدي]
قال ابنُ عطيَّة: وصيةٌ مِن اللهِ -عَزَّ وجَلَّ- لنَبيِّه ﷺ تعُمُّ جميعَ أمَّتِه، وأخْذٌ بِجَميعِ مَكارِمِ الأخلاقِ… معناه: اقبَلْ مِن النَّاسِ في أخلاقِهم وأقوالِهم ومُعاشَرتِهم، ما أتى عَفْوًا دونَ تكَلُّفٍ. وعن عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ -رَضِيَ اللهُ عنهما-، قال: “أمَرَ اللهُ نَبيَّه ﷺ أن يأخُذَ العَفْوَ مِن أخلاقِ النَّاسِ”. [رواه البخاري (4644)]
أما الركن الثاني من هذا المنهج الرباني، فهو (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) أي: وأْمُرِ النَّاسَ- يا مُحمَّد- بالمَعروفِ الذي يُقِرُّه الشَّرعُ، مِن كُلِّ قَولٍ وفِعلٍ تَعرِفُ حُسنَه ونَفعَه العُقولُ والفِطَرُ السَّليمةُ، وتطمئِنُّ إليه النُّفوسُ المُستقيمةُ. [تفسير البغوي]
أما الركن الثالث فهو (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) أي: وأعرِضْ عمَّن جَهِلَ عليك، فإذا سَفِهَ عليك، وأساءَ إليك، فلا تؤاخِذْه بزَلَّتِه. [تفسير السعدي]
قال ابنُ القَيِّم: ليس المرادُ إعراضَه عمَّن لا عِلمَ عِندَه فلا يُعَلِّمُه ولا يُرشِدُه، وإنَّما المرادُ إعراضُه عن جَهلِ مَن جَهِلَ عليه، فلا يُقابِلُه ولا يُعاتِبُه. [مفتاح دار السعادة]
ومن القصص الرائعة المرتبطة بهذه الآية ما جاء في صحيح البخاري «قَدِمَ عُيَيْنَةُ بنُ حِصْنِ بنِ حُذَيْفَةَ فَنَزَلَ علَى ابْنِ أخِيهِ الحُرِّ بنِ قَيْسٍ، وكانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وكانَ القُرَّاءُ أصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ ومُشَاوَرَتِهِ، كُهُولًا كَانُوا أوْ شُبَّانًا، فَقالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أخِيهِ: يا ابْنَ أخِي، هلْ لكَ وجْهٌ عِنْدَ هذا الأمِيرِ؟ فَاسْتَأْذِنْ لي عليه، قالَ: سَأَسْتَأْذِنُ لكَ عليه، قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: فَاسْتَأْذَنَ الحُرُّ لِعُيَيْنَةَ، فأذِنَ له عُمَرُ، فَلَمَّا دَخَلَ عليه قالَ: هِي يا ابْنَ الخَطَّابِ![كَلمةٌ تُقالُ لِلتَّهديدِ] فَوَاللَّهِ ما تُعْطِينَا الجَزْلَ [يعني: لا تُعطينا العطاءَ الكثيرَ] ولَا تَحْكُمُ بيْنَنَا بالعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حتَّى هَمَّ أنْ يُوقِعَ به، فَقالَ له الحُرُّ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قالَ لِنَبِيِّهِ ﷺ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، وإنَّ هذا مِنَ الجَاهِلِينَ، واللَّهِ ما جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عليه، وكانَ وقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ» [رواه البخاري (4642)].
ونخلص إلى أن هذه الآيةُ مِن ثلاثِ كلماتٍ، تضمَّنَت قواعِدَ الشَّريعةِ في المأموراتِ والمنهِيَّاتِ.
وكان أصحابُ النَّبيِّ ﷺ أكثرَ النَّاسِ فَهْمًا لِكتابِ اللهِ، وعمَلًا به، ووُقوفًا عندَ حُدودِه.
وفوق ذلك كان عُمرُ -رضِيَ اللهُ عنه- مِن أكثرِهم وُقوفًا عنْدَ حُدودِ اللهِ –تعالَى-، وكان لا يُجاوِزُ كلامَ اللهِ أبَدًا.
وهذا ما يتوافق مع الصيام والهدف منه، لو التزمنا تعليماته وطبقنا ما أمرنا به في قرآننا وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وغدا ومضة رمضانية جديدة