نون والقلم

د.فيليب سالم يكتب: ضوء في وسط الظلمة.. سباق نحو تطوير علاج للكورونا

في الأزمات المصيرية، كتلك التي يمر بها العالم اليوم، يحتاج المرء إلى الشجاعة والأمل والمعرفة. وأما البحث العلمي، وهو الآلية لصنع المعرفة، سيكون بمثابة خشبة الخلاص لنا. انه الطريق الوحيد لاكتشاف علاج لمرض  COVID-19 الطريق الوحيد للانتصار على هذا الوباء.

لقد تأخرنا في محاولة اكتشاف علاج للكورونا. ولذا توفي ليومنا هذا أكثر من 80 ألف مصاب. منذ أكثر من أربعة أشهر ومنذ أول ظهور لهذا المرض في الصين، كان واضحاً أن هذا العدو لا يشن حربا ضد الصين ذاتها، أو ضد أية دولة أخرى، بل يشن حربا ضد البشر جميعا. ضد الإنسانية كلها. وكنا نأمل من الأطباء والباحثين العلميين من جميع أنحاء العالم أن يهبوا ويقفزوا فوق الحدود الجغرافية التي أغلقت، للعمل معا وللتعاون لإيجاد علاج لهذا المرض بأسرع وقت ممكن. فالطب يعلو فوق الجغرافيا والقومية والسياسة والدين. انه يعلو إلى الإنسان.

في خضم هذه الظلمة التي تلف العالم، والهلع الذي يأسر أكثر من ثلث البشرية في بيوتها، ها نحن نرى ضوءًا خافتا من بعيد. لقد انطلقت منذ أيام المؤسسات الدولية، كـ منظمة الصحة العالمية (WHO) ، والمراكز الكبرى للأبحاث العلمية في العالم، نحو تطوير علاج كهذا. ولكن يجب أن نتذكر انه بين جشع مصانع الأدوية لكسب الربح، وشهوة العالِم للشهرة قد تتبخر الموضوعية وتزول الحقيقة. لذا جئنا نقوّم هذه الأبحاث بالمعايير العلمية الصرف.

في الاثنين وخمسين سنة الماضية كنت شاهدا على تطوير أدوية وعلاجات للأمراض السرطانية وكذلك للالتهابات الجرثومية التي تشكل واحدا من أهم الأسباب التي تؤدي إلى الوفاة من السرطان. وتهدف هذه الأبحاث الجديدة إلى التغلب على المرض بواسطة إستراتيجيتين. فالإستراتيجية الأولى تعمل على اكتشاف دواء يقتل فيروس الكورونا مباشرة. وأما في الثانية فهي تعمل على تقوية جهاز المناعة في جسم المريض، كي يصبح هذا الجهاز قادراً على تدمير الفيروس. في الإستراتيجية الأولى تركز الأبحاث على أربعة أدوية :

Hydroxychloroquine (HC)

Chloroquine (CL)

Azithromycin (Z pak)

Remdesivir (RD)

نحن نعرف الكثير عن هذه الأدوية إذ أن (HC)  و (CL) يستعملان منذ عقود في معالجة الملاريا وأمراض مزمنة أخرى، أما(Z pak)  فهو مضاد حيوي ضد الفيروس يستعمل تقليدياً في بعض الالتهابات مثل الرشح والأنفلونزا ، و (RD) وهو مضاد حيوي أيضا ضد الفيروسات مثل فيروس HIV ، في 29 شهر/ آذار الماضي أعطت إدارة الغذاء و الدواء الأميركية (FDA) رسميا الضوء الأخضر للأبحاث في فاعلية الأدوية الثلاثة (CL) ،(HC)  و (Z pak) هذا يعني، من دون شك، أن هذه الإدارة قد حصلت على معطيات إيجابية بالنسبة لفعالية هذه الأدوية.

وكانت بعض الدراسات التي أجريت في فرنسا قد أشارت إلى أن المرضى الذين تلقّوا العلاج بواسطة مزيج من (HC)  و (Z pak) قد حصلوا على نتائج أفضل مقارنة بالمرضى الذين لم يتلقوا هذا العلاج، وكذلك استعمل هذا المزيج في معالجة المرضى في مدينة كنساس الأميركية، وكانت النتائج متشابهة. إلا أن هذه الدراسات نُفذت على عجل، ولا يزال عدد المرضى الذين عولجوا قليلا. وكنا قد تعلمنا من تجربة الصين أن المرضى الذين يعالجون بالـ (HC) و (CL)لأمراض مثل المرض الجلدي، Lupus Erythematosus  والتهاب المفاصل الروماتويدي لم يصابوا بـ   COVID-19   بناء على هذه المؤشرات الإيجابية تبنت الـ  FDAبحثا علميا يتناول معالجة 1100 مريض في مدينة نيويورك بواسطة (HC)  و(CL)  وها قد أطلقت منظمة الصحة العالمية الأسبوع الماضي مشروع SOLIDARITY  وهو بحث علمي ضخم تشترك فيه دول كثيرة ويعالج من خلاله آلاف المرضى، يركز هذا المشروع على دراسة فعالية علاجات أربعة تعتبرها المنظمة الأفضل بين كل العلاجات المتوافرة لدينا الآن وهي:

Remdesivir   لوحده.

المزيج (HC)  مع (CL)

المزيج من  lopinavir  و ritonavir  وهي أدوية ضد الفيروس وتستعمل في معالجة الـ AIDS

المزيج الثالث مع دواء  Interferon-beta

صنع هذا البروتكول بسرعة قصوى، للإجابة ضمن مدة قصيرة، عن مدى فعالية هذه العلاجات. وحذت المنظمة الفرنسية للأبحاث الطبية INSERM حذو الـ WHO وأطلقت مشروعا آخرا يدعى DISCOVERY   هذا المشروع هو بحث علمي يعالج من خلاله نحو 3200 مريض من الدول الأوروبية وتستعمل فيه الأدوية نفسها التي تستعمل في مشروع SOLIDARITY كما أطلقت بريطانيا قبل أيام دراسات متعددة لتقييم فعاليةRemdesivir    إذ أن هذا الدواء تُصّنِعه شركة Gilead Sciences البريطانية.

في الإستراتيجية الثانية، هناك منحى جديد وهو العلاج المناعي. هذا العلاج الذي أحدث ثورة في معالجة الأمراض السرطانية، وبينما تستعمل الدراسات التي تكلمنا عنها أدوية تقليدية نعرف الكثير عنها، يقوم العلاج المناعي على أسس وطرق علاجية جديدة استكشافية، منها حقن المريض بالبلازما التي تؤخذ من مصاب شُفيَ من المرض، هذه البلازما تحتوي على بروتينات مضادة للفيروس antibodies)  ) ، وتعمل شركات التكنولوجيا على تطويرها للاستعمال في الوقاية من المرض كما في العلاج أيضا، وهناك أيضا المعالجة بواسطة حقن المريض بالخلايا الجذعية المستخرجة من دمه؛ وغيرها من الطرق التي تعزز قوة الجهاز المناعي ليصبح هذا الجهاز قادرا على قهر المرض.

هذا بشكل مبسّط هو المشهد العلمي اليوم، من الصين إلى أوروبا إلى الولايات المتحدة ، ولكن تعالوا نسأل بشكل وموضوعي، هل نمتلك اليوم أدّلة دامغة وثابتة عن فعالية دواء ما لمعالجة COVID-19  ؟ الجواب، كلا.  هل هناك مؤشرات تقودنا إلى الاعتقاد بأن بعض هذه العلاجات التي تكلمنا عنها قد تكون مفيدة؟ الجواب، نعم. وكم يجب أن ننتظر لمعرفة شيئا ما موثق علميا؟ الجواب، بعض الأسابيع، من أربعة إلى ستة. وماذا نقول للمريض الذي يهدده الموت اليوم؟ أنقول له تعال ننتظر؟ الجواب كلا. نقول له إن يبحث مع طبيبه إمكان معالجته بواسطة مزيج من (HC)  و (Z pak) فباعتقادي أن الضرر الذي قد ينتج من هذا العلاج هو اقل بكثير من الضرر الذي قد ينتج عن عدمه.

يمر العالم اليوم بأوقات صعبة. أوقات لم يتصورها العقل البشري من قبل، ولكننا سنجتازها. سنجتازها بالصبر والإيمان والعلم، نحن نرفض الشعار الذي رفعه العالم والذي يقول بـ« التباعد الاجتماعي » نحن نقول انه لم يمر يوم في التاريخ نحتاج فيه بعضنا إلى البعض أكثر من هذا اليوم، وكم نحتاج في هذا اليوم إلى معانقة الآخر بالأخوة والدفء الإنساني والتواضع، وكم نحتاج إلى العودة إلى ذواتنا، إلى إنسانيتنا. يقول Tolstoy في كتابه«  Master and Man» على المرء ألا ينتظر حتى يدنو من الموت ليعانق المزارع الذي يعمل في الحقل عنده »، هذه المعانقة هي خلاصنا من الموت الذي يحدق بنا. لذا جئنا نرفع شعار «التباعد الجسدي» بدل شعار « التباعد الاجتماعي »، للإصرار على اللحمة الإنسانية.

نرجو أن نكون قد تعلمنا من هذه التجربة أن الله واحد، وأن الإنسان واحد، وان الأرض واحدة. ونرجو أن نكون قد تعلمنا أن الصحة هي أهم ما يملكه الإنسان، وأن أهم حق للإنسان هو الحق في الصحة لان هذا الحق هو الحق للحياة. يجب أن يحيا الإنسان أولا ، قبل أن يمكنه ممارسة أي حق آخر، نأمل أن يولد من رحم هذا الجحيم نظام عالمي جديد يحترم الله والإنسان والقيم. ونأمل نشوء أمم متحدة حديثة تمتلك القدرة على إرساء السلام في العالم، وتحترم حقوق الإنسان بتطوير شرعتها التاريخية وجعل حق الإنسان للحياة أهم الحقوق.

إنها حرب كونية. حرب ضد كل واحد منا. حرب ضد الإنسان. اركع واصلي. غدا ستشرق الشمس. غدا سينتصر الإنسان.

رئيس مركز سالم للسرطان في هيوستن/ تكساس

  salem@pasalem.com

 

 tF اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى