د.سمير محمد أيوب يكتب: خِذلانٌ لا يَصدأ
بعد اغتراب طالَ، عُدتُ إلى عمان، عصرَ اليوم التالي لوصولي، سمعتُ صوتاً مُنْهزِماً، يُرَحِّبُ هاتفيا بعودتي، ويقول: أنا رفيق عمرك ودروبك، أعْلمُ أن الأليق والأوجب أن آتيك، ولكن المرض يقعدني عن هذا الواجب، أعذرني إنْ قلتُ في أوَّل اتصال لنا، بعد سنينٍ عجاف، مشتاقٌ لك، وأنني بأمسِّ الحاجة للقياك .
عرفته فورا من تقاسيم صوته، بعد ساعتين كنتُ أعانقه، وهو على كرسي متحرك، جلسْتُ قبالته لأسمع منه. سألته لِمَ هنا في بيت أبيك، لا في بيتك؟ ما بِكَ يا رجل؟
قال بأسى: في بيتي هناك، ضاق المكان عليَّ، كنتُ طيِّباً في زمان لمْ يَعُد فيه للطيبة مكان، قُلْ كنتُ على نِيَّاتي، وأظن أن كثرةً من الناس مثلي على نيَّاتِهم، باتَت الأسرةُ بنيةً ووظيفة، هشة ًواهية، تُشَلُّ وتصدأ، وقد تنتهي بلحظة ونحن عنها غافلون .
قبل عشر سنين، وأنا على عتبة الستين من عمري، لأسبابٍ كثيرةٍ خسرتُ مالِيَ. وتلَبَّسَني هَمُّ دينٍ وذُلُّه، وداهمني من كل حَدْبٍ وصوب، فيضُ عِلَلٍ وأمراضٍ، السُّكَّرُ والسرطانُ أخبثها . أظنك تعلم، آثار استبداد الفقرِ والسكَّرِ والسرطان، برجلٍ في العقد الخامس من عمره!!!.
مع ضياع مالي، ساء مع زوجتي حالي، توقَّعتُ أنْ تُعينَني على الزمن، لكنها للأسف، مع تبدُّد المال وضعفِ الفُحولة، قلَبَتْ ليَ ظهرَ المِجَنْ، وباتت عونا لِعادياتِ الزمن عَليَّ، ولم تَكتفِ بتحريضِ أولادي علي، بل وتُعَيّرُني بفقري وضعف فحولتي.
بعد خمسِ بناتٍ وولدين كلهم جامعيون، وأكثر من ثلاثين سنة منْ رغد العيش، لم تعُد تَذْكُرُ سوى أنَّها أنثى، في عِزِّ صِباها كما تقول، بحاجةٍ لرجلٍ عَفِيٍّ وكَفٍّ يَهطل مالا، انقلب كلُّ شيء في حياتي. أصبحتُ لا أحتمل تلميحاتها، بل تؤلمني كثيرا .
لأتبين وأقطع الشك باليقين، غربلتُ كلَّ ما كنتُ أبْصِرُ وأسمعُ من تحريضٍ ضدي. سرعان ما أدركتُ أنَّ عقول زوجتي وأولادي، وقلوبهم وألسنتهم وعيونهم، باتت خاليةً مني. نجَحَتْ أمُّهم في اقتلاعي من كل تضاريسهم الداخلية والخارجية. ساعَتَها بِتُّ في عيشةٍ ضَنكا. فرَحلتُ إلى هنا بيتُ أبي .
اكتظت صفحاتُ وجهِه، بغيومِ أوجاعٍ وأحزانٍ وارفةِ الظلال. وبِتُّ أسمعُ وميضَ برقٍ ورعدٍ، يتطايرُ من أصابعه المتصارعة. كان يلهثُ وهو يحاول الإمساك بزمام دمْعِه . إنحنيتُ وضممتُ رأسَهُ بين كفيَّ . قبَّلتُ جبهتَه إحتراما وإشفاقا . مسحتُ العرقَ المُتفصِّدَ منْ كلِّ تضاريسِ وجهه المُصْفَرِّ. لَمْ أجرؤ على نُطْقِ سُؤالي: ما بك تبكي مُرتعشا يا صديقي؟
ألتقط ما يتوالد بين شفتي المزمومتين من كلام، فعاجلني وكأنه يحمل أثقالا: أنهكَني المرضُ وبِتُّ مكسورَ الخاطِر. يُباغتُ روحيَ المُتصدِّعَة وجعٌ مُمِضٌ. يَحتلُّني خِذلانٌ لا يصدأ ولا يهدأ. قتلَ أشياءً كثيرةً فِيَّ. خوف الرحيل، يتسرب إلى نفسي الآن، بعد هذه الفضفضة، أظنُّ أني راحلٌ عما قريب.
أكملَ وكأنَّه يرجو: اشتقت لزمنٍ كانت فيه عائلتي مُكتملةً، ليس بينها غائبٌ أو غاضب. أنا مُرهقٌ بشوقٍ لأناسٍ لنْ أراهم. يا لقسوة قناديلي من الأبناء والبنات. ليتهم رغم تنكرهم يعلمون، أنَّ شعلة الشوق لهم ما انطفأت يوما. وأكملَ بصوتٍ مُتهدج، والدمع يبلل أطراف لحيته البيضاء، أرجو أن لا تجرؤ على التخفيف عني، بالمجاملة والتبرير .
أقشعر بدني من هولِ ما أسمع. دفنتُ رأسيَ بينَ كفيَّ وأطرقتُ لدقائق، محاولا بصمتٍ تَهجِّي حيرتي. كَفْكفتُ دمعاً راودَني قبلَ أن أقول له: أحالوك يا صديقي مُسلسلَ خِذلان، تفاصيله في بث متصل. أعلم أنَّ الخذلانَ سِجنٌ مُظلمٌ. كي لا تفقِدَ عقلَكَ فيه وتَنجحَ في مواجهته، إتكئ على قدرتك وتخيل إيجابيات الوقائع والصور والأفكار، لا على ما تواجه من عقوق متوحش .
أدْرِكُ صعوبة التصالح مع الخذلان المتذبذب. ومع هذا لا تدع قلبك يصدأ بالأسى . إمْضِ مُتناسيا مُتجاهِلا قَدْرَ ما تستطيع. فالتجاهلُ وقتَ الغضب ذكاء، ووقتَ المصاعب إصرار، ووقتَ الإساءة تعقُّل. تَجاهَلْ العتابَ ومارس الهدوء. فأنت في أشدِّ الحاجة لممارسة السكينة .
راودتني رغبة موجعة في المغادرة. وعدته في أن أعود عصرَ غدٍ لاستكمال بقايا وشظايا الخذلان. عدت مُنكسرا إلى بيتي. وفي البال زيارةُ تَطَفُّلٍ واستنارة إلى المشكو منهم، زوجه وأولاده وبناته، خشيةَ أن يكون صاحبي مُبالغاً أو واهما أو متجنيا. غفوتُ وأنا على هذا العزم. صحوتُ مبكرا، مُكتئبا مما رأيت في منامي. أبصرت قمرا يراقص نجمة، ويغيبان في حالك الغيوم. مع أول ملامسة لشفتي مع فنجان قهوتي، ارتجفت يدي وأنا أمسك هاتفي، سمعتُ قبل أن يسقط من بين أصابعي، من يقول باكيا: البقية في حياتك. لقد رحل مع الفجر هذا اليوم، حبيبك مرتقيا إلى ربه راضيا مرضيا، وقد ترك لك مُغلَّفا مُغلقا بعناية. صلاة الجنازة ظهرا في مسجد الشريعة في اللويبده – عمان، والدفن في سحاب .
إصطَفَفتُ خلفَ نعشه . بعد أن دعوت لنفسي بمثل ما دعوت له، إنحنيتُ على النعش أقَبِّلُه. وهمستُ للراحل: لَمْ تُخْلِفِ ميعادك مع ربك، ولم أخْلِف ميعادي معك.
صديقي وداعا. سبقتني إلى رحمته، إني بِكَ متى شاء الله لاحق .
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
t - F اشترك في حسابنا على فيسبوك و تويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية