الأخبارنون والقلم

د. سمير محمد أيوب يكتب: الحب وجدل الموت والاغتيال !!!

عصرَ الأمس قبلَ المغيب، كنتُ برفقةِ صديقٍ يُحاصرُ الشيبُ لحيتَه وناصيةَ رأسه، بعد أن استقر بنا المقامُ على الشاطئ الشرقي للبحر الميت، قبالةَ فلسطين المحتلة، مُتَهكِّما وبنبرةِ مُشكك، قال مُكْمِلا هجماتَه ضدَّ الحبِّ والمُحبين: ماتَ الحبُّ يا شيخنا وشبِعَ مَوْتا. يا وحْدَنا في مساقاتِ الحياة ودهاليزها .

قلت معترضا: دعني بداية أقول لك، ولغيرك في معتقل «يا وحدنا»، أنَّ الحبَّ لضرورته لا يموت، وإنْ تشظَّى زمنُ وفرةِ الأوفياء فيه. ومِنْ ثَمَّ أُضيفُ، لا يوجد قلبٌ حيٌّ سويٌّ، غيرَ مسكونٍ، لا تحتلُّهُ أشباح حبٍّ راحلٍ، أو مُشتهى في الأفق.

عاجَلني بِتشفٍ قائلا: ولكن الأشباح ميتة أو متماوتة في العادة .

ونسائمُ بواكيرِ المساء تغمرُنا محمَّلَة بعبقِ أبو نُقطه الموز الريحاوي غربي النهر، قاطعته قائلا: قد يتسربُ بعضُها ولكنَّه لا يموت كفلسطين قبالتنا، ينساب بعيدا عبر هواجس مفتعلة، وبإيقاع يحاكي ما في القلب من ظنون صامتة، ولكنَّ جلُّها حيٌّ تجلس قبالتَك كلَّ ليلةٍ، تناديك لتَسمعَ حِكاياتها وتُسمِعًها أبالِسِتَك .

قال مستنكرا: أصغي كلَّ ليلةٍ للصمت، لا أسمع له طحنا ولا جعجعة .

قلت: المهم أن تكون وقت وميضه حيّا، مُستعدا لالتقاط  إيماءاته، وأبجدياته، ولمساته المنثالة صوبك، محاولا إيقاظك من سباتك .

في محاولةٍ ساذَجَةٍ للتهرب سأل متأفِّفا: مَنْ هي ملهمَتُك في كلِّ هذه الثقة ؟ .

قلت فرحا وأنا أجولُ ببصري في حواري قريتي شويكه،غربي النهر: وُلِدتُ وفي سمعيَ حبٌّ يا هذا، وفي بصريَ حبٌّ . ترعرعتُ والحبُّ يُزرَعُ في روحي غيطانا. ما أنِ تفتَّحَ شيءٌ مِنَ الوعي على الحياة، ( ومُبكِّراً تفتح )، إلا وكان الحبُّ على لساني أصيلا مُتدفقا منْ قلبٍ سليم .  ملهماتي كثيرات، قناديل مسرجات بالفطرة والطيبة. سهوبي ثرية بهن . حضور بعضهن مرئي. واللامرئيات من الأشباح والأشباه وفيرات .

في البدءِ وأنا صبيٌّ يافعٌ، في زمن التَّلقي الخَصبِ وبواكيرِ التَّمرُّدِ، كانت خيرية وفاطمة يرحمهن الله، ككل الطيبات من الأمهات والعمات، تكثران من سؤال ربهما، أن يُحَبِّبَ خَلْقَهُ بي . وفي ليلة قَدْرٍ، استجاب السميع الكريم . كعادته أفاض علي ما اصطفى لي من رزق عميم .

قال صاحبي دون صبر، متعجلا وكأن عفريتا قد ركبَهُ: ثم مَنْ ؟

أجبته مبتسما متمهلا لأغيظه: بالتأكيد، بعد أن أعْدَدْنني بعناية خُلُقيَّا وقِيَميَّا، امتلكت قلبا سليما شجاعا. قارب العديدَ منَ النساء من عديد المِلَلِ والنِّحَلِ . وما بين ضراوةِ القُطبِ وخطِّ الاستواء، تلقيتُ الهام الكثيراتِ ممَّنْ أعتز .

ثمة نساءٌ التقتهن عيوني فعانَقَتْهُنَّ، وأخَرٌ قَبَّلَتْهُنَّ ابتساماتي، وفي بعض اللحظات الهاربة، احتَضَنَتْ روحيَ بعضهنَّ، وتَنَشَّقَتْ نفسيَ بعضَ الهمسِ في خاطرة، وأذبت البعضَ في فنجانِ قهوتي . وثمة نساءٌ رائعاتٌ، أزورُهُنَّ وراداراتي هامدةً لنقصٍ عندي .

التفت إليَّ صديقي، دون أن ينبس ببنت شفة، وبحركةٍ عصبيةٍ اعتقل رأسَه بين كفَّيه، وكأنه يخشى عليه من الضياع ، تَبسَّمْتُ وأنا أكمِل: على مدى عقودٍ، كان للحب حضورٌ لافتٌ في حياتي . يُلاعبُني ويلعبُ بي. يثيرُ مُخيَّلَتي ويأسَرُني. يُروِّضُ الشرَّ في دواخلي . لأستَسلم لسحره . تفاعلت معه. وكما إلهامُ الأماكن تواصلنا، وتبادلنا الإشارات السرية المشفرة . وحين كان ينسكب ثراؤُنا كنا نُلَمْلِمُه، ونتسلل في دورة دموية متشابكة.

لعديدِ الأسبابِ وتعدُّدِ الفصول، وحتميات جغرافيا ما قد مضى من العمر، كانت ترتبط صِلاتنا الوثيقة، بتجلياتٍ يتعذر إحلال أخرى محلَّها، لفرط لزومياتها وفقَ مقاصدِ الحبِّ آنذاك.

عميقا تنهد، وقال وهو يشعل أوَّل سجائره: ولكن في زمن المجانية وعشوائيات المتطفلين، بات الحب خَوَّانا سريعَ العطَب سريعَ التهافُت، الأسلم الابتعاد عن شره والغناء له.

أوقفته لنتمشى قليلا . قلت وقد بدأنا المسيرَ نحو الغربِ: يا صديقي  يا رعاك الله، لا جدوى من قلبٍ لا يَسكُنه حبٌّ، يُفَعْفِصُه ويُنضِجُه. هل تعلم ما معنى أنْ تُنْضَجَ بتفاصيلِ الحُب؟! الحبُّ الموهوبُ تفاصيلٌ مثيرةٌ تَحتلُّ ضِفَّتَيه. دونها تختلط إشارات المرور في الحياة . واعلم علم اليقين، أنَّ المحب لا يخون وإن تسرب أو ابتعد . ولكن البعض من المتطفلين لا يعشقون إلا خَوَنْ . طَمِّنْ بالَك، إنْ كانَ القطُّ  بِسبعةِ أرواحٍ كما تقولون، فإنَّ الحبَّ يا صديقي بسبعين .

للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا
tF اشترك في حسابنا على فيسبوك وتويتر لمتابعة أهم الأخبار العربية والدولية

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى