تفنُّن المجتمعات العربية في مداعبة العاطفة الدينية
ولَعلَّ الإخوَان والأحبَاب فِي مِصر، هُم أَوَّل وأَكثَر مَن بَدَأَ التَّرويج لهَذه الأَسَاليب، وأَعنِي بِهَا رَبْط البَضَائِع، ومَا تُقدِّمه المَطَابِخ، ومَا تُنتجه المَصَانع، بالنّصوص الدِّينيَّة..!
مَثلاً: إذَا وَصلتَ إلَى مِصر، تَجد عِند بَوَّابة المَطَار آية كَريمة تَقول: (ادْخُلُوا مِصْرَ إن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)، ولَا بَأس بذَلك.. وإذَا دَخلتَ إلَى مِصر، وتَجوَّلتَ بَين المَحلاّت، ستَجد مَحلّ عَصير يُعلِّق لَوحة، فِيهَا آيَة كَريمة تَقول: (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا)، وهَذه نَقبلها أَيضاً بـ«الدَّف». وإذَا ذَهبتَ إلَى حَلَّاق؛ ستَجده يُعلِّق لَوحة، فِيهَا آيَة كَريمَة تَقول: (وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ)، وهَذه أَيضا سنَقبلها تَحت ضَغط المُوس والمَقَص، لأنَّ الاعترَاض عَلَى الحَلاّق يُشبه اللّعب بالنَّار. ثُمَّ إذَا ذَهبنَا إلَى مَطعم، سنَقرَأ آيَة كَريمَة تَقول: (كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)، وهَذه أَيضًا سنَقبلها بالوَاسطَة، وأَعنِي بذَلك وَاسطة الجوع الذي يَعضُّ الأمعَاء..!
كُلُّ مَا مَضَى، يُمكن أَنْ نَجد لَه مَخرجًا فِي البَلَاغَة أَو الأَدَب، أَو التَّأويل والتَّفسير، أَو الفَهلوَة والتَّخريج.. ولَكن مِن المُستَحيل أَنْ تَجد تَبريرًا لآيةٍ كَريمةٍ، وَضعهَا ذَلك الخيَّاط تَقول: (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا)..!
حَسنًا.. مَاذا بَقي؟!
بَقي أَنْ نَقول: الطَّرَائِف المِصرية فِي هَذا البَاب لَا تَنتهي، فقَد شَاهدتُ صَاحب سيَّارة أُجرَة فِي مِصر، كَتَبَ عَلى الزُّجَاج الخَلفي جزء من الآيَة الكَريمة: (يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا).. وفي حَي الحُسين القَديم، تَجد كُشكًا صَغيرًا بدَاخله رَجُلٌ طَاعن في السِّن، يُصلح السَّاعَات، وقَد عَلَّق أَعلَى الكُشك لَوحة كَتبَ عَليهَا: (وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)..!
وقَبْل الخِتَام، أُحبُّ التَّأكيد عَلَى أَنَّ هَذه الظَّاهِرَة، وأَعنِي بِهَا «إلبَاس السِّلع والمِهن لِبَاسًا دِينيًّا»، مِن أَجل التَّرويج لَهَا، لَيسَت خَاصَّة بالمِصريين، بَل هي مَوجودة فِي كُلِّ المُجتمعَات العَربيَّة، ولَكن لَا تَتَّسع المِسَاحة؛ لذِكر شَوَاهِد مِن دولٍ أُخرَى، لذَا اكتَفيتُ بالأمثِلَة فِي مِصر، لثُقلهَا الاجتمَاعي والثَّقَافي والدِّيني.!!