
تركيا .. نجاح اقتصادي مهدَّد
الفوز بالسلطة، على أهميته، ليس شرطاً كافياً للاستمرار فيها. ففوز حزب، أي حزب، بالسلطة يقوده إلى: إما أن يحقق إنجازات ويبقى في الحكم، أو أن يفشل ويغادر. ولا ريب في أن إنجازات حزب «العدالة والتنمية» خصوصاً في الميدان الاقتصادي، هي سر استمرار بقائه حزباً حاكماً لتركيا منذ عام 2002.
كتب كثيرون عن الإنجازات الاقتصادية التي أحرزتها تركيا في السنوات العشر الأولى من عهد حزب «العدالة والتنمية». وب«لغة الأرقام»: «كان الإنتاج القومي التركي السنوي 400 مليار$ عام 2003 فأصبح 800 مليار وأكثر، ما وضع تركيا في الترتيب 16 عالمياً. وهذا انعكس، بداهة، على دخل الفرد السنوي الذي كان أقل من 4 آلاف دولار فأصبح 11 ألفاً، وعلى الأجور التي ارتفعت بنسبة 300%، كما تم تسديد المديونية التراكمية التي بلغت 300 مليار دولار.. بل، واستقبلت تركيا استثمارات أوروبية كبيرة تصل 70% من الاستثمارات الكلية، وأكثر من 5 مليارات دولار من الخليج العربي، وفتحت شواطئها ومراكزها التراثية وجمال بلادها للسياحة التي تجاوزت 20 مليون سائح سنوياً، بينهم 4.5 مليون روسي ينفقون سنوياً 10 مليارات دولار. وانتعش قطاع الصناعة والخدمات والزراعة ووصل حجم الصادرات سنوياً 150 مليار دولار بينما كان مجرد 25 ملياراً، واتسع مع العرب ليصل 50 ملياراً، فيما بلغت الاستثمارات التركية في حلب وحدها 7 مليارات دولار.
وهذا بداهة، صاحبه، نهضة في قطاع التعليم، وبناء عشرات الجامعات، ومثلها مستشفيات وبنية تحتية عصرية ومطارات ضخمة، وصولاً إلى صناعة سيارات ودبابات وطائرات من دون طيار وأقمار صناعية، وتشجير مساحات هائلة بأشجار مثمرة وإحراج.
لكن، لئن كان نجاح تركيا أردوغان في الميدان الاقتصادي ثمرة لمقاربة سياسية استراتيجية، عمادها الاستقرار الداخلي، و«تصفير المشاكل» مع دول «الإقليم»، والعربية منها بالذات، فقد كان من الطبيعي أن يضع تغيير هذه المقاربة، بشكل شبه كامل، في السنوات الأربع الأخيرة، ما تحقق من إنجازات في مهب الريح. وهذا بات ملموساً، حيث تراجعت معدلات النمو القومي التركي من 2.5% إلى 1.6%، وخسرت الليرة التركية نحو 15% من قيمتها السوقية، وتأزمت علاقة تركيا مع أغلب دول «الإقليم»، ومع روسيا التي بلغ حجم المبادلات التجارية بينها وبين تركيا عام 2014، أكثر من 40 مليار دولار، ناهيك عن اتفاق مد أنبوب الغاز من روسيا إلى تركيا فأوروبا، وعلى بناء مفاعلات نووية بتكنولوجيا وتمويل روسييْن في تركيا، وعلى عمل مئات الشركات التركية في روسيا.
والسؤال المُحير، هنا، هو: ترى لماذا قلب أردوغان، رأساً على عقب، سياسته الخارجية التي بفضلها، أساساً، حقق حزبه إنجازات اقتصادية مكنته بدورها من البقاء في السلطة؟!
قبل نحو أربع سنوات توفر أساس لتغيير سياسة تركيا الخارجية، ارتباطاً بقناعة أردوغان بأن سيطرة تركيا على المنطقة باتت قاب قوسين أو أدنى. كيف لا؟ وقد فاز «إخوان مصر» بالسلطة، وتصدر«حزب النهضة» السلطة في تونس، وصار النظام السوري على وشك السقوط، حسب التقديرات السائدة آنذاك، فيما رأت التقديرات ذاتها أن «إخوان الأردن واليمن» سوف يحققون، على الأقل، ما حققه «الإخوان» في دول أخرى.
هنا وقع أردوغان، وأوقع حزبه، في تقدير استراتيجي خاطئ، حين أغفل أن «حسابات الحقل» غير «حسابات البيدر»، وأن «السياسة جبر لا حساب»، وتنطوي على المجهول دوماً، ما قاده إلى التبسيط والتسرع في الجزم بحسم «الإخوان» لنتائج حدث عربي تاريخي شائك المسار، مُعَقَّد الصيرورة، ومتعدد الاحتمالات في مآلاته ونتائجه النهائية. ويبدو أن النجاحات الانتخابية «الإخوانية» الأولية، بما صاحبها، ونجم عنها، من تقديرات ورهانات، قد سرعت تفاهم أردوغان و«إخوان مصر» وواشنطن حول مقاربة استراتيجية، فحواها: أن «الشرق الأوسط إسلامي»، فإما أن تحكمه تنظيمات «الإسلام السياسي المتطرفة»، أو«جماعة الإخوان المعتدلة».
قيل، وكُتب، الكثير حول هذا التفاهم، لكن أوضح دلالات حصوله، يتمثل في تدخل تركيا القوي متعدد الأوجه في الأزمة السورية، بما في ذلك طلب أردوغان الصريح والمعلن بتدخل واشنطن العسكري المباشر لحسم الصراع في سوريا وعليها. وأكثر، فتركيا أردوغان التي أصبحت مركزاً لجماعة «الإخوان»، ولقيادات فرعيْها في مصر وسوريا بالذات، صارت، أيضاً، (من على قاعدة «عدو عدوي صديقي»)، ممراً ومستقراً لسلاح ومسلحي ما يسمى حركات «الجهاد العالمي»، بما فيها «داعش» و«النصرة»، إلى العراق وسوريا اللتيْن يوجد فيهما اليوم، باعتراف واشنطن، 60 ألف مقاتل أجنبي من 100 دولة. ما يعني أن الرهان التركي لم يقتصر على «الإخوان»، بل ذهب لحدود الرهان على عصابات الإرهاب التكفيرية التي تكفر الجميع، بمن فيهم «الإخوان».
قصارى القول: بحسبان أن «السياسة اقتصاد مكثف»، فإنه لولا مقاربة «صفر مشاكل» السياسية، لما حققت تركيا أردوغان إنجازاتها الاقتصادية، بل، ولما مثلت قصة نجاح مبهرة، باتت اليوم مهددة، بعدما ذهب أردوغان مذهباً آخر، ارتباطاً بقناعته بأن نجاحات «الإخوان» التي لم تصمد نهائية، ما قاده إلى منزلق خطر، حتى أصبح وحزبه وتركيا، أمام خيارين، هما: إما أن يواصل هذا المنزلق إعادة إنتاج نفسه، أو تتم مراجعة أسبابه بناء على نتائجه الكارثية، ومن منطلق المصالح التركية ومصالح دول الجوار العربي، بما يساهم في وقف مسلسل القتل والتدمير والتخريب في المنطقة. وهذا ممكن، ففي الأمس القريب نجحت تركيا، وعاد نجاحها بفوائد متبادلة مع سوريا والعراق ومصر وفلسطين ودول الخليج العربي، ولن تكون «إسرائيل» بديلاً أفضل لتركيا. وأظن، وليس كل الظن إثماً، أن القائم من أزمات بين تركيا وكل من مصر وسوريا والعراق وروسيا، يريح الولايات المتحدة. فهذا كله يجعل واشنطن، (فما بالكم ب«إسرائيل»)، أكثر قوة وتأثيراً، إقليمياً وعالمياً.