
تراشق سياسي ثقيل الجهل
يحتل الجهل نصيبا وافرا من أفكارنا وسلوكنا ومواقفنا ونقاشاتنا وكلامنا…
ومن مظاهر ذلك، ميل الغالبية العظمى إلى طرح الأسئلة الاستنكارية، وقلة قليلة جدا في بلادنا تعتمد على الأسئلة الاستفهامية الصريحة، الباحثة عن معلومة دقيقة، تكون أساس الاستنتاج ومنطلق تشكيل المواقف.
وكي ندرك مدى تغلغل هذه النقطة في كيفية مقاربة لما يحدث ويطرأ نضرب مثالا آنيا ساخنا، يتمثل في التقرير الذي نشرته دائرة المحاسبات، الذي أشار إلى أن أحد المترشحين للانتخابات الماضية متهم بتلقي تمويل أجنبي.
فمنذ تاريخ نشر هذا التقرير قامت الدنيا في الحياة السياسية ولم تقعد وتكاثرت الأسئلة الاستنكارية وحمي وطيس التراشق السياسي. وبسبب ارتفاع درجة حرارة التراشق بين الأحزاب، وصل الأمر ببعض السياسيين وأيضا الإعلاميين في البرامج المباشرة إلى التساؤل عما ضر لو أن دائرة المحاسبات أفصحت عن هوية المتهم؟ بل إن البعض لم يتوان عن تحميلها مسؤولية إشعال الفتنة السياسيّة؟
هكذا بكل أريحية تُطرح هذه الأسئلة على الملإ وعلى الهواء مباشرة ،دون أن يُجهد السياسي الغاضب والإعلامي نفسهما ويحولان وجهة السؤال من استنكاري إلى استفهامي: ما الذي يمنع قانونيا دائرة المحاسبات من الإعلان عن اسم صاحب الفساد المذكور، وهي التي أعلنت عن التهمة؟
فهل أن دائرة المحاسبات امتنعت عن ذكر هوية المتهم لأن مزاجها أملى عليها ذلك أم أنها محكومة بموانع قانونية؟
إن طرح مثل هذه الأسئلة وغيرها على أهل الذكر ودائرة المحاسبات نفسها ،كان سيُفضي بنا إلى إجابات واضحة ،مفادها أنه ليس من حق دائرة المحاسبات إصدار أحكام والتشهير بالأشخاص وأن دورها توجيه التهمة معززة بمجموعة من القرائن إلى القضاء، الذي وحده يحق له إصدار الأحكام ونفي التهم أو إثباتها.
يؤدي التسرع في إلقاء اللوم واعتماد خطاب غير مؤسس بالمعرفة القانونية في وسائل الإعلام إلى البلبلة ومع الأسف إلى نشر الجهل وتعميمه وأيضا إلى قلب الوقائع والحقائق.
وعوض أن نبتهج بنشر دائرة المحاسبات لمثل هذا التقرير ونمرر رسالة تقدير إلى العاملين فيها ،أصبح الموضوع مسؤولية دائرة المحاسبات في خلق فتنة سياسيّة بين المترشحين الـ27 وأبرز من تحوم ُحولهم التهمة.
المفروض أن يشكل تقرير دائرة المحاسبات درسا في كيفية احترام حقوق الإنسان وأن التشهير المُمارس صباحا مساء في حياتنا السياسية والإعلامية والاقتصادية اليوم إنما هو خرق صريح لحقوق الإنسان ولحق أي تونسي في الدفاع عن نفسه بعيدا عن التشهير والضوضاء.
من جهة أخرى، كشفت بعض الأحزاب عن هشاشة داخلية وعن عدم اتزان قادتها.
فالمتهم حسب التقرير واحد والمنزعجون من هذه التهمة إلى حد الخوف عديدون.
والملاحظ أن عددا كبيرا من المترشحين الـ27 أخذ على عاتقه مسألة الإعلان عن هوية المتهم مع ما يعنيه ذلك من صيد في الماء العكر ومن استثمار لحالة الفضول للتشفي من الغريم السياسي حتى ولو كانت التهمة بعيدة عنه جملة وتفصيلا.
تنص المسؤولية السياسية على أن الأحزاب الجادة والحريصة على تكافؤ الفرص السياسية وعلى نزاهة العملية السياسية الانتخابية أن تُندد بالتهمة وكفى ، وألا تنخرط في تراشق مجاني وهش ومريض. فالتنديد بالتهمة هو دفاع عن المبدإ وعن الحق، ومن ثمة هو تنديد بكل متهم تتوفر فيه قرائن الإثبات.
إن البحث عن معلومات دقيقة يمكننا من التمييز ومن ترشيد النقاش والخطاب. كما أن تميز السائس بالرصانة يمثل دليلا على مدى متانة المشهد السياسي في بلادنا. وهو ما فندته طريقة تفاعل بعض الأحزاب مع تقرير دائرة المحاسبات وتحديدا في النقطة المتعلقة بالتهمة المذكورة سلفا.
نقلا عن صحيفة الشروق التونسية