القفز إلى 2030
بالتعريف، الرؤية مسألة مستقبل تحدد التوجهات العامة والانحيازات الكبرى. وبالتجربة الرؤية لا تُخترع ولا تستحدث من فراغ. أي رؤية تكتسب جدارتها من مدى اتساقها مع حركة مجتمعها وتطلعات شعبها. في الاتساق المهم ممكن ونجاح محتمل.
الخلل الرئيسي في «رؤية مصر 2030»، التي أشرفت عليها وزارة التخطيط، أنها استغرقت نفسها في أرقام وجداول واستخلاصات وأحلام من دون أفق سياسي يضعها على أرض صلبة.
غياب المسار السياسي ينال بقسوة من أي رهانات على الوصول بمعدل النمو إلى (10%) سنويا والقفز إلى الموقع رقم (30) في الاقتصاديات الدولية.. الأحلام بذاتها مشروعة، فمصر رغم ظروفها الصعبة تمتلك قدرات كامنة تمكنها من النهوض، غير أن لكل رهان اشتراطاته وأصوله.
من الاشتراطات والأصول أن تكون الرؤية موضوع توافق وطني، تخضع للحوار العام وتصوب أفكارها وفق نتائجه وربما تعديلها جوهرياً. في التوافق الوطني ضمانة التزام بما تتضمنه من توجهات وما تصوغه من رهانات. الرؤية قبل البرامج والسياسات قبل المشروعات.. هذه حقيقة سياسية جرى التفريط فيها بفداحة.
ومن الاشتراطات والأصول أن تتأسس الرؤية على قراءة للتاريخ. إذا لم تكن هناك قراءة على نحو صحيح فإن كل شيء سوف يرتبك وأخطاء الماضي سوف تتكرر.
في التاريخ المصري الحديث مشروع وطني واحد يتجدد من مرحلة إلى أخرى وفق الظروف المتغيرة.
لم تكن مصادفة أن الأهداف الرئيسية لثورة «يناير» هي ذاتها أهداف ثورات مصر الأخرى في القرن العشرين بصياغة جديدة. أخذت من ثورة (1919) غضبتها الشعبية ونزوعها إلى بناء دولة دستورية. وأخذت من ثورة (1952) شعاراتها في العيش والعدالة الاجتماعية.
المشروع الوطني المتجدد هو قضية رؤية تصنع في مسار التاريخ لا خارجه، في قلب الحياة العامة لا في الغرف المغلقة.
الرؤية تتجاوز الاقتصاديين والأكاديميين إلى مجمل حركة المجتمع بقواه الحية وعناصر التنوع فيه.
إذا لم يحترم التنوع الطبيعي في التصورات والمصالح فلا رؤية مشتركة ولا تأسيس لاصطفاف حولها ولا فرصة أن تصمد في اختبار الزمن.
هذه حقيقة سياسية أخرى فوق طاقة الفريق الذي أعد كتاباً متخماً بالأرقام الملونة والأحلام المحلقة عن مصر (2030).
ومن الاشتراطات والأصول أن تتسق الرهانات الاقتصادية على رفع منسوب «تنافسية الأسواق ومكافحة الفساد والتنمية البشرية وجودة الحياة» مع المعايير الدولية المتعارف عليها.
التطلع بذاته إيجابي لبناء اقتصاد تنافسي متوازن ومتنوع يعتمد على الابتكار والمعرفة وقائم على العدالة والاندماج الاجتماعي والمشاركة، غير أن التطلع بغير سند قفز في الفراغ دون أمل.
الرهانات تكتسب صدقيتها من مدى الالتزام بها في خطط مرحلية تتراكم نتائجها سنة بعد أخرى. لا يمكن القفز إلى (2030) بالأحلام المحلقة دون أن تكون هناك مقدمات صلبة في (2016) تعلن الحرب على الفساد ومؤسسته التي تتصور نفسها فوق كل المؤسسات. كما لا يمكن التعويل على وعود بعدل اجتماعي مؤجل في مجتمع تئن طبقته الوسطى والفئات الأكثر عوزاً.
فضلاً عن أن فكرة الابتكار والمعرفة تناقض تضييق المجال العام والضيق بأي وجهة نظر أخرى لا ابتكار بلا حرية ولا معرفة دون الالتحاق بالعصر وقيمه الكبرى في الحريات العامة.
تغيير البيئة السياسية السلبية من مستلزمات إكساب أي رؤية مستقبلية صدقيتها.
الأفدح أنه لا يوجد أدنى صلة بين برنامج الحكومة الذي تزمع إعلانه أمام المجلس النيابي والرؤية التي أكدت أنها ملزمة لخمسة عشر عاماً مقبلة.
البرنامج الحكومي يدعو إلى رفع الدعم خلال خمس سنوات دون أن تتوافر شبكة ضمان اجتماعي كافية أو أي إجراءات تؤكد لغالبية مواطنيها عدالة توزيع الأعباء والتضحيات. كما يحدث دائماً فإن فواتير الإصلاح الاقتصادي سوف تدفعها الطبقة الوسطى، وتكتوي بنيرانها الفئات الأكثر عوزاً، بينما يعفى منها الأثرياء ورجال الأعمال المتنفذون.
البرنامج نفسه يتبنى أن يكون لكل خدمة تقدمها الدولة سعر اقتصادي، وذلك يعني بالضبط رفع أسعار الخدمات العامة فوق كل طاقة تحمل.
البرنامج يناقض الرؤية، الأول يضرب بقسوة على مصالح أغلب المواطنين والثانية تحلق في دنيا الوعود والأماني البعيدة.
أسوأ احتمال ممكن أن تطوى أوراق الرؤية قبل أي سجال ينضج الأفكار ويوضح أين نقاط الاتفاق والاختلاف، كأنها لم تكن. السجال مسألة سياسية بقدر ما في المجتمع من تنوع.
نفي الحوار يقضي على أي احتمال للتوافق على أرضية مشتركة تؤسس لتجاوز أزمات الحاضر.
معضلة مصر الحقيقية أنها لا تعرف إلى أين تمضي ولا ما هي بوصلتها إلى المستقبل المنظور. غياب البوصلة خطر داهم على أي مستقبل. وتنحية السياسة مشروع انسداد لكل أفق.
كما هي العادة التاريخية في مصر فإن كل شيء يبدأ من جديد، كأسطورة «سيزيف» في الأساطير الإغريقية، صعود قرب أعلى الجبل يليه تدحرج إلى سفحه بلا توقف أو نهاية.
لا يوجد احترام كافٍ للتراكم والعمل المؤسسي لاستدامة التنمية.
أي رهان يتجاوز مفهوم الدولة الحديثة محكوم عليه بالإخفاق المسبق.
في الدول الحديثة المؤسسات أقوى من الرجال. بقدر المؤسسية فإن السياسات يمكن أن تستطرد من مرحلة إلى أخرى مع بعض الإضافات والتعديلات دون اضطراب في التوجهات أو تنكر لها من وقت لآخر.
في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي تحدث الرئيس الأسبق «أنور السادات» طويلا وكثيرا عن مصر (2000) دون أن تكون لديه أدنى خطة لمواجهة استحقاقات القرن الجديد والاستجابة لتحدياته.
في التسعينات قامت مجموعة بحثية من أفضل العقول الاقتصادية المصرية بوضع تصورات تفصيلية ل«مصر 2020» نشرت في مجلدات على أجزاء، دون أن تهتم بها سلطة حكم أو منبر رأي عام باستثناءات محدودة للغاية.
ترأس الفريق البحثي الدكتور «إسماعيل صبري عبدالله»، وهو رجل سياسة اقترب من «جمال عبد الناصر» رغم أنه دخل سجونه، وعالم اقتصاد من أبرز مؤسسي مدرسة التخطيط المصري.
وزير التخطيط الحالي الدكتور «أشرف العربي» ينتسب إلى نفس المدرسة لكنه لا شأن له بالسياسة، كما يعترف بنفسه. المعضلة أن أي رؤية للمستقبل مسألة سياسية لا فنية.
رؤى المستقبل يصنعها المفكرون والسياسيون، والبرامج التنفيذية يضعها الفنيون والتكنوقراط. وخلط الأدوار إجحاف بالرجال، وغياب السياسة عصف بالفكرة كلها.