البحر القاتل!
خمسة غرقى من المهاجرين كل ساعة في البحر المتوسط، هكذا عنون المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان أحدث تقاريره، عن البحر القاتل، الأرقام مفزعة، وصادمة، وأكثر من مقلقة، فمنذ بداية العام وصل أكثر من 46 ألف شخص إلى السواحل الإيطالية بعد إغاثتهم في البحر قبالة سواحل ليبيا. وتم رصد نحو 70 زورقاً مطاطياً و10مراكب الأسبوع المنصرم زيادةً 60% عن الأسبوع الماضي. أعداد الغرقى وصلت منذ مطلع العام إلى ما يزيد عن 1400غريق، عدد ضحايا قارب واحد انطلق من مصر قبل شهر وصل إلى 500 شخص فقط! وخلال الأسبوع الماضي فقط انقلبت ثلاثة قوارب، لم يحدد عدد الغرقى بشكل دقيق لاستناد التقديرات إلى روايات لا تزال السلطات تجمعها من الناجين! وأما فيما يخص عدد المفقودين، فحدث ولا حرج، فالمعلومات المتوفرة حتى اللحظة تشير إلى فقدان نحو 800 شخص، بمعدل خمس أشخاص كل ساعة واحدة، ولا أذيع سرا أنني فقدت عائلة كاملة من أقاربي، خلال العام الماضي، عثر على بعض أفرادها، فيما لم يزل البعض الآخر في عداد المفقودين! في أحدث «جرائم البحر القاتل» فُقد أثر نحو 100 شخص بعد غرق مركب قرابة السواحل الليبية الأربعاء الماضي، فيما انقلب قارب يقل نحو 650 مهاجراً –أغلبهم من النساء والأطفال- على مسافة نحو 35 ميلاً بحرياً (65 كم) من السواحل الليبية، حيث تشير التقديرات الأولية إلى فقدان أكثر من 500 شخص. وتمكن 25 شخصاً من الوصول إلى قارب آخر كان يقوم بسحب القارب الذي غرق، إلى جانب نحو 85 آخرين تمكنت طواقم خفر السواحل من انتشالهم، وأعلنت البحرية الإيطالية انتشال 45 جثة بعد غرق مركب ثالث الجمعة الماضية. الأسبوع الماضي فقط، شهد أكبر عدد من محاولات عبور البحر المتوسط من ليبيا إلى إيطاليا، جرى إنقاذ نحو 14 ألف شخص منذ الاثنين الماضي حيث سادت في البحر أجواء هادئة، مواجهة سلوك المهربين وتجار الموت ربما يكون أسوأ من الموت غرقا، فهم عادة ما يعتدون بالضرب على المهاجرين كما يرتكبون جرائم من نوع آخر: اغتصاب النساء، والاتجار بالأطفال خاصة ممن يبقون بلا أهل، بعد غرقهم، أو اختفائهم.. ما لا يذكره تقرير رغم كل التفاصيل المهمة، هو عمليات الاتجار بالبشر، وتحويل الحرائر إلى مومسات، تحت ضغط الحاجة، وتقطع سبل العيش، والضياع في بلاد الغربة، وربما يكون الموت غرقا، وتحول الحر أو الحرة إلى طعام في بطون الأسماك، أكثر رحمة من الوقوع في أيدي هؤلاء التجار، ووفقا لتقديرات دولية فإن متوسط عدد الأطفال الذي وصلوا إلى إيطاليا –مثلا- يقدر بنحو 1000 طفل شهرياً، ومن المتوقع أن تزداد هذه الأعداد خلال الأشهر القادمة. غير أن الغالبية العظمى من الأطفال الذين يعبرون الحدود يمرون دون عائلاتهم ويواجهون اعتداءات وحالات استغلال وإمكانية الموت في أي لحظة في كل مرحلة من مراحل رحلتهم! تقرير الأورومتوسطي يقول إن أولوية الاتحاد الأوروبي(!) تتركز في مكافحة التهريب وليس الإنقاذ، في الوقت الذي لا توجد فيه عملية أوروبية واضحة هدفها الإنقاذ، هذا هو الوجه الحقيقي لهذا «الاتحاد» الذي أشبعنا نهيقا وجعيرا بحقوق الإنسان، والحريات، والكلام الفارغ، ها هو يسقط في امتحان «إنسانيته» المدعاة، وها هي هي أوروبا بأسرها تتحول إلى دولة «نامية» من الدرجة العاشرة، نسبة للقوانين العنصرية التي بدأت تسنها، ووفقا لتغير كل البيئة التشريعية فيها، فكل يوم قرار، وتشريع، وبدلا من أن تنقل العالم الثالث إلى مرتبة العالم الثاني على الأقل، ها هي تزاحم دول المرتبة الثالثة على مكانتها المتدنية في التعامل مع أرواح البشر، بل إن كل أو جل أدوات القتل، والفتن والقنابل الموقوتة في بلادنا، هي منتج أوروربي بامتياز، وهي السبب المباشر وغير المباشر في إذكاء نار الحروب، وتفجير الفتن، وها هي اليوم تستقبل ولو جزءا يسيرا من سهام مرتدة، ظلت تطلقها باتجاه «الجنوب»، منذ انقضت على دولة الخلافة العثمانية، وتقاسمت إرثها، وتعاملت مع شعوبها وبلادهم كـ «غنائم» حرب واسلاب، مسقطة نفس قيم الحروب القروسطية، على نفس حروبها الحديثة، ولكن بطبعة مزيدة ومنقحة! كان البحر المتوسط، فيما مضى، مهدا للحضارات القديمة، وطريقا للتواصل، ونقل العلوم والثقافات، والبضائع، وها هو يتحول اليوم، بفضل النزاعات التي صنعتها وتصنعها أوروبا، والغرب عموما، إلى مقبرة بشرية ضخمة، تبتلع كل ساعة خمسة من البشر، الفارين كالفراش، نحو ما يعتقدون أنه النور، وهو نار تحرقهم، وتحرق قلوب من يبقى من أحبائهم! صدرنا لأوروبا فيما مضى، العلم والنور، والثقافة، وحفظنا لها عصارات حضارات الإغريق وغيرهم، وزدنا عليها، وها هي تبادلنا الحياة بالموت، وأنا على ثقة تامة، لو رفع «الغرباء» يدهم عن كل تلك البؤر المشتعلة في بلادنا، المنتجة للاجئين، لأطفئت نيران الفتن، ولعم الأمن والسلام بلادنا، ويكفي أن تكف أوروبا والغرب عموما عن إمداد بؤرة الموت والسواد في بلادنا (إسرائيل) بأسباب الحياة، لننعم، وتنعم المجرة كلها بالأمن والسكينة! الأيام دول، والتاريخ له خياناته ايضا، فلينتظر الظلمة القتلة يومهم، ولعله لا يكون بعيدا، أما أنت ايها البحر الجميل، فمعذرة، فلم تكن في يوم قاتلا، ولكنهم جعلوك كذلك، بتوحشهم الذي لا يرتوي من الدم!