
سعاد خليل تكتب: فن الرقص والباليه
يقول الناقد فرانكلين ستيفنز، كلنا راقصون، نحن نستخدم الحركة للتعبير عن أنفسنا، عن جوعنا ، عن الامن ، عن غضبنا ، عن افراحنا ، عن اضطراباتنا ، وعن مخاوفنا ، قبل استخدامنا للكلمات بكثير . ونحن كذلك نفهم معني الحركات قبل ان نفسهم معاني الكلمات بكثير.
فن الرقص هو أكثر الفنون انتشارا خصوصا في أمريكا حاليا. ومن اكثر الفنون فيها بحثا وتنوعا وتجريبا . .
ما هو الرقص؟ وكيف بدأ وكيف تطور؟
الرقص هو أقدم الفنون، فعمره التقريبي يبلغ (25000 سنة، إن النقوش الفرعونية القديمة تصور راقصين وراقصات ، وتذكر التوراة كيف رقص داوود امام الرب ، كما يخبرنا هوميروس عن الرقص عند الاغريق ، في ( الالياذة ) والاوديسة ) . والاهم من كل هذا هو ان نعلم بان الرقص كان آنذاك .
وظل لعصور طويلة حاجة اجتماعية يشارك فيها الناس ، وكان في احيانا كثيرة احتفالا طقوسيا يعبر عن افراحهم واتراحهم . في بداية البداية أي في المجتمع القبلي – ارتبط الرقص بساحر القبيلة والطقوس التي كان الناس يؤدونها لوصف الصيد او الحصاد او الحرب او الزواج. الخ . كما ارتبط أحيانا بالسحر والاديان الوثنية ، ان راقصي قبائل (الفودو) في هاييتي وراقصي سهول شمال امريكا ، وراقصي الزولو ، في جنوب افريقيا ، هو المؤسسون الاوائل لفن الرقص ، ويبدو ان تأثيرهم عاد اليوم الي خارطة الرقص الحديث في امريكا واوروبا . ورقصهم كما ذكرنا كان جزء من النشاط الاجتماعي ، واساسا في احتفالات الولادة والزواج والموت . وهذا يشمل جميع الديانات والمجتمعات القديمة ، حتي الهندوسية .
اذا الرقص يعتبر شكلا من اشكال الفن، فيستطيع ان يعبر عن احدي العواطف الإنسانية حب ، كره ، الم ، سعادة .. الخ.. ويستطيع ان يعبر عن شعورنا بالحياة .
وكما نوهت ان الانسان القديم عرف الرقص للتعبير عن كنون نفسه وقيمه وانفعالاته المختلفة ، فقام بنقلها للمشاهد من خلال الحركات البدنية المنظمة كوسيلة نقل، وتنوع حركات الرقص ، ومن ثم فانه يمكن التعبير والايحاء عن جميع المشاعر والايماءات .
وقد ظهرت عدة الوان من الرقص تختلف وتتباين حسب الثقافات ومراحل التطور التي تسود البلاد خلال فترات ظهور وانتشار كل من تلك الرقصات حيث يوضح هذا الاختلاف والتباين مدي تأثير الافكار والتقاليد والقوميات علي تنوع الوان الرقص ، وقدرته الواسعة في انتاج اشكال كثيرة تعكس الاحساس بالحياة.
والرقص اشكال وانواع لا يمكن ان يتشابه بين الشعوب باختلافاته الواضحة فهناك الرقص الشعبي والرقص النقري ورقص الجاز ورقص الباليه الكلاسيك ،.. الخ . فكل نوع من هذه الرقصات له ما يميزه من العناصر الحركية التي تثير عدة عواطف مختلفة في وجدان المشاهدين عن مثيلاتها من العناصر الحركية للرقصات الأخرى لديهم .
وفي قراءة للكاتب رياض عصمت في كتاب شيطان المسرح وهو يسلط الضوء علي عدة تجارب ومعلومات وانطباعات عن المسرح وضمنها الرقص . يؤكد انه بعد انتشار المسيحية في اوروبا بفترة قصيرة انفصل الرقص عن الدين ، ففي القرن الثالث عشر تحديدا وقفت الكنيسة التي سبق ان رحبت بالرقص في البداية كجزء من طقوسها موقفا معاديا منه ، واعتبرته الحاديا وهكذا بقيت رقصات المرحلة السابقة ، ولكن بعد ان فرغت من مغزاها الديني .
وما لبث الرقص ان انتقل الي مرحلة جديدة عندما دخل البلاط الملكي ، خصوصا في فرنسا وايطاليا ، وتميزت رقصات تلك الآونة بالثياب الثقيلة الفاخرة ، والاقلال من قوة الحركات وامتزجت الرقصات بالدراما بحيث عالجت مواضيع الحب واللياقة في القصور لقد كانت مرحلة انعزال الرقص عن الجماهير الواسعة ، وميله لان يكون ترفا خالصا .
ولكن هذا ساعد من جهة اخري طبقة الحكام علي الاهتمام الجدي بالفن الصاعد ، ومنحه مباركتها الرسمية . فمع القرن السادس عشر تغيرت شعبية الرقص وازداد انتشارا في صفوف الطبقة المتنعمة .
تعود النشأة الاولي لفن الباليه إلى إيطاليا وخاصة في عصر النهضة كما اطلق عليه في القرن الرابع عشر والخامس عشر، وقد ظهر الباليه في تلك الفترة عن طريق حفلات البلاط وتنافس الملوك والامراء في مجال الفن ، ولما كان الرقص عنصرا اساسيا في تلك الحفلات ظهر نوع من الرقص سمي فيما بعد بفن الباليه . وهي كلمة ايطالية مشتقة من بلاري أي رقص علي الرغم من انه في تلك المرحلة لم يكن التكنيك هو الاساس الذي يقوم عليه الرقص ، بل كانت النواحي الجمالية في الخطوات والتشكيلات الجماعية ، ولم تكن الموهبة الفنية تعني شيئا في ذلك الوقت ، ويمكن ان نرجع ذلك الي صعوبة التحرك بحرية كبيرة مع ارتداء الملابس ا لطويلة والثقيلة والإكسسوارات الكثيرة التي كانت سمة من سمات تزيين ا لملوك والامراء في تلك الحفلات .كما ذكرت اعلاه.
واسس لويس الرابع عشر عام 1661 الاكاديمية الملكية للرقص ، بهدف تخريج راقصين محترفين ، وهنا يذكر التاريخ الفني موهبتين رائدتين هما : جان باتسيت لولي ، وبيير بوشامب ) ولكن اقصي نجاح للرقص حققه ، ليس مصممو رقصات فقط ، بل راقصون وراقصات مبدعون . علي سبيل الذكر كانت ماري تاغليوني ) اولي هذه الاسماء عندما ظهرت في باريس عام 1833 وفي هذه الفترة ظهر حذاء البالية التقليدي وملابسه ، وكان باليه (جيزيل ) الشهيرة اول معالم هذا الفن الجديد آنذاك.
كان الاهتمام بالرقص كأحد اهم الفنون بالعالم الاوروبي والامريكي وبدأ هناك العديد من المصممون للرقص يظهرون لوضع معايير واسم لهذا الابداع كالمصمم اوغست بونوفيل والفرنسي موريس بيتيبا فهو او من صمم رقصات ( بحيرة البجع، وكسارة البندق ، والحسناء النائمة ) للمسرح الإمبراطوري بسانت بطرسبرغ في روسيا .
والباليه Ballet حسب تعريفه العام هو شكل من أشكال الأداء المسرحي يقوم على تقنيات الرقص التعبيري ترافقه الموسيقى والإيماء والمشاهد المسرحية. ومن أهم خصائص الباليه الحركية، الرقص على رؤوس أصابع القدمين.
إذ كانت بداياته مشاهد تؤدى في البلاط الإيطالي لتسلية الضيوف، ثم أطلقه الفرنسيون على حركات الرقص وتقنياته. وقد اكتسب رقص الباليه التقليدي تقنياته من تطبيق نظام صارم في التدريب والتجارب على مدى أربعة قرون ونيف، وجعلت الجسد يتحرك فيها بأكبر قدر ممكن من المرونة والسرعة والسيطرة والرشاقة.
لقد تطور الرقص من الطقسي الي الباليه، وهكذا افسح المجال امام حركات التجديد العصرية للرقص في الظهور . وكذلك الاشتهار ، وعلي سبيل الذكر كانت الراقصة الامريكية ايزادورا دانكان ) من اوائل المجددات ، بحركاتها البعيدة عن الباليه التقليدي ، وملابسها الفضفاضة ، والموسيقا المرافقة التي توحي باستحالة الرقص علي انغامها ، وتركت اثر حتي علي جمهور وفناني روسيا عندما رقصت هناك عام 1905 بعدها ظهرت راقصة اخري هي ( روث سانت دنييس في نفس فترتها.
وقبل ان يصل هذا النوع من الفنون الي امريكا ثم انتقل الي فرنسا، عن طريق الملك فرانسوا الاول الذي كانت علاقته وثيقة مع معظم شخصيات عصر النهضة ، وحيث كان يؤمن بالأفكار الفنية والنواحي الجمالية ، فعمل علي اقامة الكثير من هذه الحفلات الفنية الراقصة ، حتي جاء ولي العهد هنري الثاني وتزوج من كاترين دي ميدتشي Catherina de Medici والتي يرجع لها الفضل في نشاه الباليه في فرنسا ، وهي ايطالية الاصل وهي من جلبت هذا النوع من الرقص الي فرنسا من ايطاليا.
وقد رعت عام 1581 عرضا للباليه كلف حوالي ثلاثة ملايين فرنك ، وكان الراقصون من النبلاء والنبيلات .وهذا النوع من ارقص سمي الباليه
نعود الي كتابنا عن هذا النوع من الرقص يقول الاستاذ رياض عصمت ان ميشيل فوكين وهو مصمم روسي ويعتبر من ابرز المجددين انه اصدر بيانا عام 1914 دعا فيه الي مفهوم جديد للبالية والرقص ، واحتج علي اسلوب ( بيتيبا ) السابق المتسم بالكلاسيكية والقواعد الصارمة الثابتة ابدا ، مطالبا بان تتبع الخطوات والشخصية من الموقف الدرامي نفسه ومن عنصر الرقصة وهذا ما جعل فوكين الذي لم يهجر اصول الباليه وانما اقتبسها وطورها اعظم مصمم للرقص منذ بيتيبا .
لم يستمر فوكين وترك مكانه لمجددين اخرين امثال سيرد دياغهيليف وليونيد ماسين . وبرز راقصون بارعون مثل نيجنسكي ، بافلوفا ، كارسافينا ، ومؤلفون موسيقيون مثل اثغور سترافنسكي ، وميلي بالاكيريف حتي موت دياغهيليف عام 1929 ظلت فرقته مسيطرة علي فن الباليه في العالم ، وذلك بفضل تعاونه مع عدد من المبدعين في فنون شتي .
كان الرقص الطقسي القديم علي جماعيته واحتفاليته محدودا بغرض مباشر، ومحدودا ايضا بالطبيعة الاجتماعية والجغرافية للقبيلة ، بحيث لا تعني رقصات الزولو شيئا للهنود ، ولا العكس ، اما الباليه الذي تطور عبر العصور ، واتخذ اشكالا مختلفة ، فهو فن الرقص الانساني الذي ينتقل بلا حدود عبر مجتمعات متباينة ، يخاطبها ويرضي نزعتها للجمال . ولولا هذا لما تطور الرقص وتحرر اليوم من ا لباليه الكلاسيكي الذي وصل لا قصي مراتبه عند الراقصين السوفييت ، نحو استكشاف افاق جديدة .
ان فن الباليه هو الفن الارستقراطي الذي تحبه طبقة الملوك والامراء وتجلي حبهم لهذا الفن بمشاركتهم في الاداء بماقي ذلك الملك والملكة كلاهما وتشهد الاكاديمية الملكية للموسيقا والرقص بباريس الذي انشاها الملك لويس الرابع عشر كما ذكرت سابقا حيث هذه المدرسة او الاكاديمية بدأت في احتفالات البلاط الملكي الفرنسي وزاد امدها بثلاثة عشر مدرسا من فرنسا وايطاليا ، وذلك للعمل علي اعادة تأسيس هذا الفن علي مستوي عال في فرنسا ، واشتهرت هذه الاكاديمية بحركاتها الرشيقة ولم تعتمد علي البراعة الفنية الفائقة ، وامتد نفوذ هذه الأكاديمية الي كل انحاء اوروبا.
عندما نتحدث عن فن الباليه ومفهوم الجمال فيه نتبين علاقة الفن الجمالي بالباليه : فهو يعتبر عمليات التجميع الهندسي لأفراد يرقصون معا ويصاحبهم التناسق المتنوع لعديد من الألات والادوات .
هو فن صامت يتحرك فيه الراقص في الزمان والمكان مستندا علي الموسيقي ، وتتحد فيه الروح والجسد ليعبر عن احاسيس معينة ، متصلة بفكرة معينة ، وله قواعده واسسه التي رسخت عبر القرون .واصبحت تدرس بجميع مدارس الباليه في العالم كفن عالمي اكاديمي موحد .
ان فن الباليه يعتبر فنا مسرحيا لغته هي لغة راقصة تعبر عن فكرة من خلال رقص جماعي او فردي ، مصحوبا بالموسيقي والمناظر والاضاءة ،فهو رقص مسرحيا يعتمد علي تقاليد بعض العناصر الحركية والمقننة والمعبرة .اي هو دراما حركية تنقل الي المشاهد عن طريق الرقص ا لاكاديمي او الاداء التمثيلي الصامت ،مصاحبا بالموسيقي والعناصر التشكيلية .
ان فن الباليه هو فنا مركبا يحتوي علي الكثير من الفنون الأخرى مثل الدراما والموسيقي ، والحركة والديكور إضافة الي الازياء والاضاءة والاخراج الخ. باختصار هذا النوع من الفن يختص بكل عناصره التي تهدف الي انتاج الجمال .فهو يحدد طبيعية الحكم الجمالي لدي المتذوق او الاعجاب الدي يظهره المشاهد بالمبادئ الجمالية والثراء التكنيكي الحرفي والوسائل التعبيرية والتشكيلات الهندسية .
المراجع: كتاب شيطان المسرح : رياض عصمت
تذوق فن الباليه: دكتورة راجية عاشور.
للمزيد من مقالات الكاتبة اضغط هنا