اخترنا لكنون والقلم

رضا هلال يكتب: حين تتآمر المصالح وتسقط الشعارات

عمت الفوضى أرجاء الكرة الأرضية، وانتشرت القلاقل والنزاعات في كل مكان، بين كوارث طبيعية واضطرابات حربية.

ولم يكن الشيطان الأكبر ـ أمريكا ـ بعيدًا عن هذه الفوضى؛ بل كانت لها اليد الطولى في إشعال أغلبها، إن لم يكن جميعها.

فمن أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، ومن آسيا إلى إفريقيا، تعمل واشنطن على إدارة الأزمات أو تأجيجها بما يخدم مصالحها الاستراتيجية، حتى لو أدى ذلك إلى تفكيك الدول وإغراق الشعوب في مستنقعات الصراع.

تفجير بندر عباس: رسائل نارية إلى طاولة المفاوضات

في خضم ابتزازها الدبلوماسي لطهران خلال اجتماعات عمان بشأن الملف النووي، جاء تفجير بندر عباس ليقلب الموازين.

فبندر عباس ليس مجرد ميناء؛ إنه شريان تجاري وأمني حساس، تربطه علاقات وثيقة بحركة النفط والتجارة البحرية الإيرانية.

تفجير بهذا الحجم، وفي هذا التوقيت، لا يمكن قراءته بمعزل عن محاولات كسر الإرادة الإيرانية ودفعها إلى تقديم تنازلات أكبر على طاولة المفاوضات.

كما جاء هذا الهجوم ليكشف هشاشة الداخل الإيراني رغم كل ما تروجه طهران عن صلابتها الأمنية، مما يضع الوفد الإيراني في موقف حرج، لا سيما مع تسريبات تتحدث عن نية تشديد القيود على البرنامج النووي والتوسعات الإقليمية لإيران.

الحوثيون والمخطوطات: أوراق ضائعة في لعبة المصالح

في موازاة هذه الأحداث، تطفو على السطح قضية لطالما أُريد لها أن تبقى طي الكتمان:

تسليم الحوثيين عام 2016م لأهم المخطوطات التلمودية النادرة في اليمن إلى إسرائيل، برفقة عائلة يهودية مكوّنة من اثني عشر فردًا (وهي قصة كبيرة سأفرد لها لاحقًا مقالة تفصيلية على منصة نون الإخبارية).

عملية التسليم لم تكن حدثًا ثقافيًا فحسب، بل حملت دلالات سياسية خطيرة:

كشفت أن الشعارات المرفوعة ضد إسرائيل قد تنهار أمام حسابات المصالح الخفية، وأن الاتصالات السرية لم تنقطع حتى مع أكثر الجهات راديكالية.

ومع ذلك، لم يشفع هذا «الجميل» للحوثيين؛ فالضربات الأمريكية على اليمن تواصلت بوتيرة متصاعدة، مستهدفةً مواقعهم تارةً بحجة حماية الملاحة الدولية، وتارةً أخرى بزعم مواجهة التمدد الإيراني.

هذا الواقع يؤكد قاعدة لطالما حكمت الصراع في المنطقة: المصالح فوق الشعارات، والخدمات لا تضمن الولاء في عالم السياسة الدولية.

الولايات المتحدة، باعتبارها الحامي الأكبر لإسرائيل، لم تتردد في معاقبة الحوثيين بضربات متتالية ومحددة ومركزة في العمق اليمني، رغم ما قدموه، لأن المشروع الأمريكي لا يعترف إلا بمن يخدم مصالحه بصورة كاملة ومستدامة، لا عبر صفقة عابرة أو خدمة ظرفية.

المشهد الدولي: إلى أين تتجه المنطقة؟

لا يمكن فصل مشهد الشرق الأوسط المتوتر عن تحولات النظام العالمي بأسره.

فالعالم يعيش اليوم على وقع إعادة تشكيل خارطة النفوذ، مع تصاعد الأزمات بين القوى الكبرى، وتحول مناطق التماس التقليدية ـ كاليمن والخليج وشرق المتوسط ـ إلى ساحات اختبار إرادات.

كل هذه التطورات، من تفجير بندر عباس إلى فضيحة تسليم المخطوطات، تصب في نهر واحد: تصعيد التوتر الإقليمي والدولي.

فالمنطقة لم تعد ساحة نزاع عسكري فحسب، بل أصبحت مسرحًا معقدًا لصراع ثقافي وديني وسياسي.

أمريكا تبتز دول الخليج كلها بإيران، وإيران تناور، الحوثيون يبحثون عن شرعية مفقودة، وإسرائيل تواصل التسلل إلى الملفات الحساسة عبر اللعب على أوتار الهوية والتراث والدين.

هذه الحرب الناعمة لن تبقى ناعمة طويلًا؛ فالمقدمات توحي بأن الانفجار قادم، وأن التحالفات التقليدية ستتغير تحت وطأة الأزمات المتلاحقة، ليظهر شرق أوسط جديد، قد يكون أكثر دموية، وأشد تقلبًا مما شهدناه في العقود الماضية.

خيانة التحالفات الهشّة في الشرق الأوسط

تجربة الحوثيين ليست حالة استثنائية، بل تعبير صريح عن نمط متكرر في مشهد الشرق الأوسط:

تحالفات هشة، ومراهنات خاطئة على قوى لا تؤمن إلا بمصالحها.

كثيرون قبل الحوثيين ظنوا أن تقديم التنازلات أو الخدمات ـ ولو عبر قنوات سرية ـ قد يضمن لهم الحماية أو الشراكة.

لكن التجربة أثبتت مرة تلو الأخرى أن القوى الكبرى، وعلى رأسها واشنطن، ترى هؤلاء مجرد أدوات مؤقتة تُستخدم عند الحاجة ثم تُرمى عند انتفاء الغرض منها.

فالضربات الأمريكية على اليمن، رغم “الخدمة” الحوثية بتسليم المخطوطات، تؤكد أن التحالفات في عالم السياسة ليست مبنية على الوفاء، بل على تحقيق المصالح الإستراتيجية البحتة.

وما لا يخدم المشروع طويل الأمد يتم الاستغناء عنه بلا تردد.

من هنا، يتضح أن الشرق الأوسط لا يعيش فقط صراع قوى كبرى، بل يعيش أيضًا أزمة وعي بطبيعة العلاقات الدولية الحديثة، حيث لا مكان للمشاعر أو الولاءات العاطفية، بل حيث تسود البراغماتية المطلقة، ويصبح البقاء للأقوى والأكثر قدرة على تغيير قواعد اللعبة لصالحه.

ففي عالم يسير بخطى حثيثة نحو الفوضى، تصبح قراءة تفاصيل المشهد ضرورة لفهم مآلاته.

فالتفجيرات، والخيانة الثقافية، والابتزاز السياسي، ليست سوى مقدمات لمستقبل لا يزال يُرسم في الغرف المغلقة، وعلى أنقاض الشعوب المنهكة.

redahelal@gmail.com

للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى