
في زمنٍ تسللت فيه القدوات من الملاعب والشاشات إلى قلوب الصغار، وفي لحظةٍ ظن البعض أن أصوات القرآن قد بهتت في ذاكرة الجيل… بزغ فجرٌ جديد من محراب الأزهر الشريف.
أطلق الأزهر نموذجًا فريدًا في شهر رمضان المبارك، نموذجًا لا يُعلّم التلاوة فحسب، بل يُحيي الدولة. دولةٌ لا تعرف الجغرافيا، بل تتسع حيثما نُصبت محراب، وارتفعت آية، وخشعت قلوب.
في صلاة التراويح، لم يكن الإمام شيخًا مسنًّا ولا قارئًا مخضرمًا… بل كان فتى، يحمل المصحف في قلبه كأنه يحمل رسالة السماء. تلا آيات الله بصوت يقطر خشوعًا، فارتعدت القلوب، وبكت العيون، وشهد الناس لحظة استثنائية: الطفولة تقود، والنور يسكن الصوت، والمحراب يشهد ميلاد جيلٍ جديد.
لم يكن الأمر مجرد تدريب أو عرض رمضاني. كانت رسالة: أن يكون للقرآن سلطانٌ في النفوس منذ الطفولة، وأن يعود الحلم بأن يصبح الطفل إمامًا، لا لاعب كرة. أن تُزاحم القدوات الحقيقية بريق الشهرة والنجومية، ويصبح الإمام الشاب في مقدمة الصفوف، لا في هامش الحياة.
الأزهر الشريف الطيب.. أزهر في رمضان وقدم نماذج رمضانية، صححت وضع المجتمع وعدلت من بوصلته، وأعادته إلى جادة الصواب من جديد مع الطالبين محمد حسن وأحمد سامي وكلاهما يتمتع بكل المميزات المطلوبة في قارئ القرآن الكريم من إتقان وملامسة القلوب، والخشوع وتنوع القراءات والثبات والثقة الكبيرة لكليهما حتى كأنهما منذ سنوات في هذا المقام.
لقد صنع الأزهر، بهذه المبادرة، نموذجًا يليق بتاريخ «دولة التلاوة المصرية»، تلك التي أنجبت عمالقة كالحصري وعبد الباسط والمنشاوي، والتي كدنا ننسى مجدها في زحام المشهد. واليوم، يعود الصوت الندي، لا من تسجيلات الزمن الجميل، بل من حناجر فتية، لم تكد تُفطم عن لهو الدنيا، لكنهم اختاروا التلاوة طريقًا، والقرآن رفيقًا، والمحراب موطنًا.
وانضم هؤلاء الفتية إلى إخوانهم في المحراب الأزهري لينضموا إلى كوكبة من النجوم المتلألأة كالشيخ الدكتور الحديدي الذي يتمتع بأداء راق يضعه في مصاف عظماء هذه الدولة العريقة، ورضا السيوفي الذي أعاد لنا الثقة في القراء من جديد لإتقان الأحكام وحلاوة الصوت المنشاوي، وهو صوت متنوع يدخل القلوب كالنسيم العليل، والشيخ محمود محمد عزازي، المتقن المتنوع ذوو المساحة الصوتية العريضة، والشيخ محمد سالم عامر، المقرئ المسكون بالقرآن الكريم.. وغيرهم كالبربري وفوزي وآخرين لا يحضرني ذكر أسماؤهم وهو تقصير مني في حقهم.
ولقد استمتعت كثيرا بسماع تلك الأصوات الندية العذبة التي أعادت إلينا الثقة من جديد في قدرتنا على إنتاج علماء وقراء ومثقفين بحق، بعد فترة انحطاط ذهبت بنا إلى اللهو واللعب والترفيه المباح وغير المباح.
إنها دعوة لإعادة ترتيب أولوياتنا، لننظر إلى أطفالنا لا بوصفهم مشاريع نجاح دنيوي فقط، بل كحملة رسالة، وروّاد قيم، وبُناة هوية. رمضان كان، وسيبقى، موسمًا للإحياء… وما أحياه الأزهر هذا العام، ليس أقل من نهضة.
فليُفتح الباب أمام كل طفل يُتقن التلاوة، وليُرفع الستار عن جيلٍ يتلو ولا يلهو، يقود ولا يتبع، يؤمّ الناس إلى الله، لا إلى الشهرة.
فهذا الصوت النقي، في تلك الآية المرتلة، في هذه الدموع التي تهطل خلف إمام صغير… عادت دولة التلاوة. عادت لتُقيم في قلوبنا، لا في أرشيفنا.
وختاما فلتكن البداية من بيوتنا.. ازرعوا في قلوب أطفالكم حبّ القرآن، وازنوا بين أحلامهم وأرواحهم، علّهم يكونون غدًا ممن تُفتح بهم أبواب السماء، ويُضيئون المحاريب بأصوات الإيمان.
علّنا نُعيد للقرآن مكانته، لا فقط في رمضان، بل في كل حين…
فدولة التلاوة لا تُبنى بالبرامج، بل بالأرواح التي تؤمن، وبالقلوب التي تُحب، وبالأجيال التي تختار طريق الله وهي تبتسم.
وغدا ومضتنا الرمضانية الأخيرة لهذا العام