
بسام عبد السميع يكتب: نيويورك.. رحلة الصدفة
الصدفة دوما تصنع مساراً مغايراً وتنتج إدراكات جديدة لتبقى في الذاكرة.. لم أخطط لتلك الزيارة رغم رغبتي فيها منذ سنوات طويلة وتوفر الظروف لكنها لم تحدث، وجاءت هذه المرة دون توقع.
في محادثة هاتفية مع صديقي رضا شلبي أحد المستثمرين الشباب الطموحين والمتفائل والمغامر والصديق الحق عبر تجارب السفر أبلغني برغبته بالذهاب إلى نيويورك عدة أيام لاستكشاف حالة الاستثمار ودعاني لصحبته فوافقت وذهبنا في غضون 48 ساعة من إطلاق الفكرة، وتواكبت الرحلة التي جرت في 21 مارس 2025 مع أجواء ممطرة في نيويورك والقدرة على السير في شوارع تايمز سكوير ومانهاتن وجيرسي وكوينز واستوريا «الحي العربي».
وكان التلقي حالة الرحلة ففي مجتمع نيويورك، عرفت أن الأحداث بأثرها وليس بطولها أو قصرها وأدركت أن عليك أن تأخذ ما تحتاجه وليس ما تريده.. ولا تهدر المال في نفقاتك اليومية.. وحياتك الخاصة هي الدنيا كلها.. ولا خوف من المستقبل في أمريكا.. وعليك أن تصدق مع نفسك فتصدق مع الله فتصدق معك الحياة.
والصحة أثمن ما في الوجود.. والحكومات التي توفر الأمان الاقتصادي يستطيع شعبها الصعود للقمر.. وفي أمريكا لا خوف من السلطة فالسلطة الحقيقية هي نفسك وليس النظام الحاكم.. وفي الغرب تكتشف حقيقتك وحقيقة بلادك.. وفي الشرق تغرق في تداعيات الخوف من كل شيء حتى من نفسك.. نيويورك تضع زائريها وقاطنيها في اختبار صدمة المعتاد وضرورة التفكير والاختيار.. عليك أن تعرف ماذا تريد لتعرف أين تسير ومن أين تبدأ.
أمضينا ثلاثة أيام لا نتوقف عن الحركة إلا ساعات قليلة للنوم، وقد اندفعت لهذه الرحلة لاستكشاف نيويورك ومقابلة الصديق العزيز، الذي تقول أنفاسه: حياتي في مساعدة الجميع وروحي تبحث عن كل محتاج وأبذل جهدي وما توفيقي إلا بالله، إنه الإعلامي بـ الأمم المتحدة أحمد محارم صاحب الروح الشفافة والنفس الطيبة والوجه البشوش النابض بالابتسامة.
منذ وصولي تواصلت معه لكن ظروفي لم تسمح بمقابلته إلا في اليوم الأخير وكان لقاءاً شكل ثمرة الرحلة روحاً وعقلاً، ومنحني جرعة من العطاء الإنساني الممزوج بالود وعمق الإخلاص، فقد استضافنا فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد دويدار إمام مسجد عثمان بن عفان رئيس المركز الإسلامي بوسط مانهاتن لتناول الإفطار الرمضاني وأمَنا لصلاة المغرب والعشاء والتراويح ليلة 25 رمضان وألقى كلمة موجزة لمدة 5 دقائق باللغة الإنجليزية عقب الركعة الثامنة من صلاة التراويح لبيان قراءته لكثير من الآيات من سورة فصلت في الركعة الثامنة من الآية 9 إلى الآية 36 .
وأبان أن القرآن الكريم دائري لا ينتهي، والسكون للوقف وليس في الآيات سكون وأن القرآن كائن حي وأن آخر آية حسب ترتيب المصحف الشريف هي: «من الجنة والناس» يتبعها «الحمد لله رب العالمين».
وأشار الدكتور دويدار إلى ضرورة حُسن الوقف والابتداء عند قراءة كتاب الله مع تدبر آياته والالتزام بأحكامه، ثم استضافنا في جلسة جمعتنا نحن الثلاثة حتى بعد منتصف هذه الليلة المباركة 25 رمضان، وتحدث عن الحياة والآخرة ومسلمي المهجر وابن عربي والماتوردية والأشعرية والمصطلح وتغير مدلوله، والعقل الأمريكي والعقل العربي وكل ذلك في نقاش تارة بين التوجيه والاتفاق وأخرى بين التباين مع روح الأبوة والأخوة والاستاذية.
وعند مغادرتي المركز الإسلامي، أسعدني لطف الدكتور دويدار بضرورة التواصل وأن هذه الجلسة دشنت صحبة طيبة يفخر بها الجميع.
وبعد خروجي من المركز الإسلامي أهداني الصديق العزيز القامة الأخلاقية والفكرية والمهنية أحد إصداراته القيمة التي تدل على الوفاء والوطنية والوعي بقيمة النابهين الذين صاروا رموزاً إنسانية وفكرية، وفي صدارتهم الراحل الدكتور يس العيوطي وهو من كنت تحدثت إليه عدة مرات قبل سنوات وكنت آمل زيارته في نيويورك.
ولم أرى الكتاب إلا بعد عودتي إلى أبوظبي أمس في ليلة العيد حيث قمت بفتح الحقيبة التي أهداها لي الأستاذ محارم لأجد فيها هذه الكتاب وعدد من الصحف والمجلات.
قرأت الكتاب على الفور وأثلج صدري لأنه استعرض لمحات من تاريخ الراحل الدكتور يس العيوطي المستشار القانوني في الأمم المتحدة وأستاذ القانون الدولي في الجامعات الأمريكية والكاتب والمفكر في مراكز الأبحاث الدولية وممثل الأمين العام للأمم المتحدة في عدد من مناطق الصراعات في العالم ومنها غزة واليمن.
والكتاب الذي أصدره الصحفي أحمد محارم تحت عنوان: «ذكرياتي مع العيوطي – د يس العيوطي من النيل إلى الأمم المتحدة.. رحلة عبر الذاكرة» هو إطلالة عميقة ودسمة ومتنوعة على رحلة العيوطي والحياة في أمريكا.
وكتب محارم في مقدمة كتابه «ذكرياتي مع العيوطي»: هذا الكتاب هو محاولة للاقتراب من الراحل الدكتور يس العيوطي الذي كان وسيظل اسمه وتاريخه حديث الدنيا والناس في الأوساط الدبلوماسية.
ويضم الكتاب بين دفتيه أبرز ما قاله وكتبه الدكتور العيوطي وما قاله الناس عنه، وذكريات المؤلف مع الدكتور العيوطي، مختتما محتواه بألبوم من الصور للعيوطي ومن كتبوا عنه وذلك في عدد من الفعاليات الأممية.
ويأمل أحمد محارم أن يسهم الكتاب في بعث أمل الشباب بالاقتراب من أصحاب الخبرة لينهلوا من تجاربهم فتتواصل سلسلة العطاءات الإنسانية.
وتنوعت شهادات رموز المجتمع الأمريكي حول الدكتور العيوطي حيث أشار الدكتور أحمد دويدار إلى أن العيوطي كان يردد في لقاءتهم معا: «أن الصدفة لعبت الدور الرئيس في حياته وأن القدر يرسم لكل منا خارطة طريق والفارق بين الناس هي الكيفية التي سار بها كل منا في الطريق وتعامله مع الحياة والناس وأنه لم يتوقع يوماً أن يعمل بالقانون وأن يكون مستشاراً بالأمم المتحدة حيث نشأ في مصر في بيت أزهري ودرس وتخرج وبدأ حياته بالتدريس في المعاهد الدينية».
نشأت صحبة كبيرة بين العيوطي ودويدار وكان العيوطي يشارك في ندوات المركز الإسلامي عقب صلاة الجمعة ولتمكنه بعدد من اللغات شكلت مشاركته في فعاليات المركز الإسلامي في مانهاتن إضافة فكرية وقانونية وثقافية لكل الحاضرين في هذه الفعاليات.
ورحل الدكتور العيوطي في عام 2023 ، وأدى الإمام دويدار ورواد مسجد عثمان بن عفان صلاة الجنازة.
الكتاب يعد ثروة متنوعة تضم إطلالة على المجتمع الأمريكي وتجربة العيوطي في مصر وأمريكا وبعثاته ممثلاً للأمين العام للأمم لمتحدة وآرائه في الحياة والناس والمال ، والمجمع الانتخابي الأمريكي والأمم المتحدة، والدعوة لإلغاء الدستور وغياب اللوبي العربي في أمريكا، والأقليات تعزز التشققات، والعنصرية والقانون والدولار له حرية التعبير ، وقصة «هل طار مع الريح»، وقرارات دولية أجهضت العدالة العالمية، وشهادات 38 مفكر وعالم وباحث ومسؤول وخبير في قطاعات مختلفة على مسيرة الدكتور العيوطي، إضافة إلى المؤلف الذي قدم شهادته في مراحل مختلفة من الكتاب.
وقد رحل عن عالمنا الدكتور يس العيوطي في عام 2023 عن عمر يناهز 97 عاماً ولقبه الإعلامي أحمد محارم في كتابه ذكرياتي مع العيوطي بـ«ذاكرة مصر تمشي على قدمين».. ولعلي هذا المقال جاء فرصة للوفاء للراحل للدكتور العيوطي الذي دعاني إلى نيويورك ومساعدتي فيما أحتاجه، لكن الظروف حالت دون ذلك.. دعواتنا بالرحمة والغفران للراحل للدكتور العيوطي وتقديرا للصديق الإعلامي أحمد محارم.